للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

غابت الشمس (١)، فالدرس والمذاكرة هما (الفاتحان لأبواب القرائح، والناقبان عن الأسرار، والمقربان للدلالة على المعنى بالألفاظ الوجيزة والعبارة البليغة) (٢).

ثم إن المتأمل في مجالس المذاكرة يجدها على إحدى هيئتين، هيئة يجلس فيها المتذاكرون لمدارسة العلم وحفظه وإتقانه، لا سيما المتفقهون في بداياتهم، فهذه الهيئة يعتني أصحابها أكثر ما يعتنون بالضبط والحفظ دون أن يقصدوا إلى التحرير والتحقيق، أما الهيئة الثانية فهي الهيئة التي تقدَّم أصحابها في العلم ونالوا منه طرفًا صالحًا، فإذا التقى النفر منهم فتذاكروا في الفقه هيجتهم المذاكرة على المباحثة والتحرير والتدقيق.

فإذا تقرَّر هذا علم أن التحرير والتحقيق ليس من أغراض المجلس الأول، ولذا فإنه ربما جرى في كلام أهل العلم ضعف الاكتراث بالكلام الذي يجري في المجالس التي تلك هيئتها، فلا يحمل ما فيها أو يتلقى عن المتذاكرين فيها على محمل التحقيق. ولأجل ذلك فإن الفقهاء كثيرًا ما يصرحون عند ذكر بعض مسائل الفقه أنها أثبتت على جهة المذاكرة (٣)، منبِّهين بذلك أنها ليست من المذهب المحرر المنضبط، بل ربما خالف الواحد من الفقهاء مذهب أصحابه في المذاكرة، أو تكلم فيما لم يتكلموا فيه. كالذي نقله ابن شاس (ت ٦١٦ هـ) عن أبي الطاهر بن بشير عند الكلام عن المصلي الذي عجز عن جميع حركات الصلاة ولم يبق له سوى النية بالقلب، فقال


(١) انظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (٣٥/ ١٦٩).
(٢) الواضح، ابن عقيل (١/ ٥٢٧).
(٣) انظر على سبيل المثال: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (٢/ ٨٠)، الطبقات السنية، الغزي (٣/ ١٦١)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢/ ٢٩٣) وفي (٣/ ٣٨٨)، شرح الخرشي على مختصر خليل (١/ ١١٨) وفي (٥/ ٢٩٨)، العدة في شرح العمدة، البهاء المقدسي (١/ ٤٩٢). وذكر تقي الدين السبكي في شروط المؤرخ: ألا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة وكتبه بعد ذلك. انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٢/ ٢٣). وأما التساهل في المذاكرة عند المحدثين وعدم حملها على محمل الرواية والتحمل عن الشيوخ فمشهور معلوم، انظر على سبيل المثال: تاريخ بغداد، الخطيب (١/ ٣٣٥) وفي (٥/ ٥٦٣).

<<  <   >  >>