للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ذهب ريحه، وكالماء الصافي إذا طال مكثه نشَّفته الأوعية والهواء وغيِّرته وذهبت بأكثره أو بكلِّه وتغير ريحه وطعمه، وكالبئر تُحفر فتجري فيها عين، فإن حصل له طريق حتى ينتشر صار نهرًا وكثر ونفع وعاش به الحيوان، وإن حبس وترك قل نفعه وربما غار، فكذلك العلم إذا لم يذاكر به ولم يبحث عنه، وإذا ذاكرت بالعلم ونشرته صار كالنهر الجاري دائم النفع غزير الماء، إن قلَّ مرة لعارض زاد أخرى، وإن تكدر وقتًا لعلَّةٍ صفا في ثانٍ، وتحيا به الأرض والزرع والحيوان) (١).

٢ - المباحثة في مسائل الفقه وسيلة إلى تجلية الصواب فيها، ومعرفة الآراء والأدلة ونقدها، وتمييز القوي من الضعيف، ومعرفة الصحيح والسقيم، وربما استضعف الفقيه رأيًا أو دليلًا فلم يجترئ عليه لمكان صاحبه في العلم والفقه، فإذا اعتضد بموافقة فقيه آخر في مجلس مذاكرة أو مباحثة أقدم على ما كان محجمًا عنه، وبهذا تتمحص الآراء وتعرف درجاتها.

ولم يزل الفقهاء يتباحثون ويراجع بعضهم بعضًا ويستفهم بعضهم من بعض حتى يلوح لهم الصواب. كما في مراجعة عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة، حتى ظهر له وجه الصواب بتلك المراجعة وقال: (فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق) (٢). وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) (٣). وروى البخاري (ت ٢٥٦ هـ) في التاريخ الكبير عن مالك (ت ١٧٩ هـ) قال: كان عبد الله بن يزيد بن هرمز (ت ١٤٨ هـ) ترك اللحم إذا قدمت غنم الصدقة وإبلها؛ لأنهم لا يضعونها مواضعها. فسأل محمد بن عجلان (ت ١٤٨ هـ) ابن هرمز، فأفتاه فلم يعجبه، فلم يزل ابن هرمز يخبره


(١) الفقيه والمتفقه (٤٤٣).
(٢) متفق عليه من حديث أبي هريرة، رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (١٤٠٠)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (٢٠).
(٣) تاريخ دمشق، ابن عساكر (٧٣/ ١٨٥)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (٣/ ٣٤٤).

<<  <   >  >>