للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

حتى فهم فقام ابن عجلان فقبل رأسه (١).

والفقيه ليس هو بالذي يجمع الأقوال والأدلة ويحشدها ثم لا يميز قويها من ضعيفها، بل إن الاستقصاء في الجمع دون إعمال للبصيرة ونقد لوجوه الاستدلال سبيل إلى الحيرة، والفقيه الناظر في مصنفات الفقهاء إن لم يكن معه عقل راجح يديم به النظر فيها كان كثرة الاختلاف الذي يطالعه في تلك الكتب سببًا في انقطاعه. قال الجويني (ت ٤٧٨ هـ): (إن أكثر العمايات في العلوم إنما جاءت من أخذ الحجج مسلَّمة من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها) (٢). وقال الحسن بن الهيثم (ت ٤٣٠ هـ) في كلام شريف: (الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق اليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس. فالناظر في كتب العلماء اذا استرسل مع طبعه، وجعل غرضه فهم ما ذكروه وغاية ما أوردوه حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها والغايات التي أشاروا اليها. وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل، ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك. فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخل والنقصان. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويُجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه، فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له


(١) التاريخ الكبير (٥/ ٢٢٤).
(٢) شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل (٣٣).

<<  <   >  >>