للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشُّبه) (١).

فمذاكرة الفقه والمباحثة في مسائله مع الشيوخ والأقران يتأتىَّ معها من إعمال العقل فيه والنفاذ إلى أسراره ما لا يتهيَّأ بالدرس المجرد. قال بدر الدين بن جماعة (ت ٧٣٣ هـ): (فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه؛ ليعلق ذلك على خاطره؛ فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقلَّ أن يفلح من يقتصر على الفكر والتعقل بحضرة الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده) (٢). وقد قال عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ): (رأيت ملاحاة الرجال تلقيحًا لألبابهم)، وقال: (ما رأيت أحدًا لاحي الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم)، قال يحيى بن مزين (ت ٢٥٩ هـ): يريد بالملاحاة ههنا المخاوضة والمراجعة على وجه التعليم والتفهم والمذاكرة والمدارسة (٣). ولما دفع عبد الملك بن مروان (ت ٨٦ هـ) بأولاده إلى الشعبي (ت ١٠٤ هـ) ليؤدبهم قال له: (وجالس بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام) (٤).

وهذه التحريرات البديعة والنكت العالية الرفيعة في كتب الفقهاء لم تكن عفو الخاطر كما يرتجل المرء الكلام، بل ربما تخوَّضت فيها عقول العلية من الفقهاء في مجالسهم، وأطالوا التأمل فيها في خلواتهم، حتى أشبعوها بحثًا وتحريرًا. قال أبو زيد الدبوسي (ت ٤٣٠ هـ): (وكان الواحد من السلف رحمهم الله تعالى يتفكر زمانًا طويلًا، فلا يجد لما ابتلي به من علم الحكم إلا قياسًا أو قياسين. ولهذا صارت أئمة السلف رحمهم الله تعالى أصحاب المذاهب كأنهم أصحاب شرائع؛ لأن الخلف اعتمدوا الطرد، وهو ليس بحجة يجب العمل به، فلم يستغنوا معه عن اتباع أئمتهم وتقليد سلفهم) (٥). وقال


(١) الشكوك على بطليموس (٣).
(٢) تذكرة السامع والمتكلم (٢٠١).
(٣) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (٢/ ٩٧٢).
(٤) الأدب المفرد، البخاري، باب من قال: إن من البيان سحرًا (٨٧٣).
(٥) تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع (٣/ ٤٠٢).

<<  <   >  >>