للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تكن مجالس تنظير مجرَّد لرمي المسائل والمواعظ والفتاوى على الناس، دون تعاهد لهم بحسن التخلق والتأدب بآداب الديانة في الظاهر والباطن، والخاص والعام. والتأثر بما يعاينه المرء من الأخلاق الفاضلة ويراه واقعًا أمامه لا مجرد خيالات تحكي، من أعظم ما يحمل الإنسان على التخلق بالأخلاق الكريمة والتطبع بها، ولقد كانت هذه الأخلاق مما يتلقاه الناس من أكابرهم وأهل الفضل فيهم كما يتلقون العلم عن علمائهم. قال الأحنف بن قيس (ت ٦٧ هـ): (لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم رضي الله عنه في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه) (١)، وقال ابن سيرين (ت ١١٠ هـ): (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم) (٢)، وقال حبيب بن الشهيد (ت ١٤٥ هـ) لابنه: (يا بني، إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلى لك من كثير من الحديث) (٣). بل لقد كانوا يرحلون فيها كما يرحلون في مسائل العلم، فهذا رجل جاء إلى قاضي البصرة سوَّار بن عبد الله (ت ١٥٦ هـ) فقال له: رجل جاء من خراسان يسألك عن مسألة ليس من حلال ولا حرام، فأذن له فدخل، فقال: اختلفنا في المروءة ما هي ونحن بخراسان، فقالوا لي: أنت تريد الحج فاجعل طريقك بالبصرة، وائت سوار بن عبد الله فاسأله. فقال له سوار: قد سألت، فإذا أردت الخروج فأتني. فأتاه حين أراد الخروج، فقال له سوار: (يا فتي أتعييني؟ المروءة إنصافك الناس من نفسك) (٤).

والآثار مستفيضة مشهورة عن السلف والأئمة في بيان التلازم بين العلم والعمل، وفي بيان الطبيعة الأخلاقية للفقه، وأن الفقيه الحقيقي هو من يستبين الناس أثر علمه في عمله وهديه ودلِّه وسمته، وقد قال علي رضي الله عنه: (ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في


(١) عيون الأخبار، ابن قتيبة (١/ ٤١١).
(٢) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (١/ ٧٩).
(٣) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (١/ ٨٠).
(٤) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٨٦).

<<  <   >  >>