للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

موضعًا، منها المحمود وأكثرها المذموم (١).

والجدال من شأن الإنسان وطبيعته، ولم يزل الناس يتجادلون في عامة شؤونهم بالحق وبالباطل، وقد حكى لنا القرآن مجادلة الأنبياء لأقوامهم، ووصف الله تعالى الإنسان فقال: {كَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: ٥٤]، وقال الله جل جلاله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل: ٤]، قال ابن جرير (ت ٣١٠ هـ): (يبين عن خصومته بمنطقه ويجادل بلسانه، فذلك إبانته) (٢).

فالناس يتوسلون إلى الدفاع عن آرائهم وإقناع الآخرين بها بالجدال والمناظرة، ولكن عامة الناس يتكلمون بذلك على ما تقتضيه السجية من إرسال الكلام على ما يسمح به الخاطر دون استحضار قواعد وآداب للمناظرة، إلا ما تحمل عليه الملكة الفطرية واللغوية أو ما يلتزم به المرء مع غيره من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. غير أن العلماء وضعوا للمناظرة رسومًا وآدابًا يلتزم بها المتناظران، فمنها ما يعود إلى قواعد العلم وأصوله، ومنها ما يعود إلى أخلاقيات المناظرة وما يُسمح به في مجلس المناظرة وما لا يسمح.

فارتقت بذلك المناظرة من كونها طبعًا غريزيًّا إلى أن غدت علمًا له أصول وقواعد ورسوم وآداب يتعلمها الإنسان ويتدرب بها حتى تصير كالملكة المستحكمة. قال محيي الدين بن الجوزي (ت ٦٥٦ هـ): (المراسم الجدلية تفصل بين الحق والباطل، وتميز المستقيم من السقيم، فمن لم يحط بها علمًا كان في مناظرته كحاطب ليل) (٣).

وقد كانت المناظرات في أول الإسلام زمن الصحابة رضي الله عنه فمن بعدهم على ما كانت عليه أحوالهم من البداهة واطراح التكلف، ثم أصبحت مما تتضمنه المجالس العلمية المختلفة كحلقات العلم ومجالس القضاء وغيرها، ثم


(١) انظر تفصيل ذلك في: استخراج الجدل من القرآن الكريم، ناصح الدين بن الحنبلي (١٩).
(٢) تفسير الطبري (١٤/ ١٦٥)، وانظر: الجدل عند الأصوليين، د. مسعود فلوسي (١٨).
(٣) الإيضاح لقوانين الاصطلاح (٥)، وانظر: فن المناظرة، د. محمد حسن مهدي بخيت (١٥).

<<  <   >  >>