للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

انتقل الحال بعد ذلك حتى استقلت المناظرة بمجالس خصصت لها، وبات لها شروط ورسوم وفقهاء معنيون بها وطلبة يحرصون على حضورها وجمهور يشهد وقائعها، وحفلت مدائن العلم الكبرى في تاريخ المسلمين بمجالس مشهورة مشهودة يقصدها القُصَّاد من خارجها، ويلتقي المختلفون فيها فيتطارحون المسائل في أصول الفقه وفروعه.

ولما كانت هذه المناظرات تجري على ملأ من الناس مما يتطلب سرعة الرد فيها (١)، فقد كان هذا المقام دافعًا إلى ظهور بعض أخلاق المنافسة والمغالبة بين المتناظرين. والمنافسة متى صحَّت معها النية فإنها أمر فاضل يحفظ على نفوق سوق العلم ورواجه، وقد نقل الزركشي (ت ٧٩٤ هـ) أن (التحاسد على العلم داعية التعلم، ومطارحة الأقران في المسائل ذريعة إلى الدراية، والتناظر فيها ينقح الخواطر والأفهام، والخجل الذي يحل بالمرء من غلطه يبعثه على الاعتناء بشأن العلم ليعلم ويتصفح الكتب، فيتسبب بذلك إلى بسط المعاني ويحفظ الكتب) (٢). ومع هذا فإن قيام المرء في مثل هذا المشهد مع كثرة الاعتراض والمراجعة والمناقشة ربما استخرج منه الحدة والخشونة، وقد قال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) لمحمد بن الحسن (ت ١٨٩ هـ) في بعض مناظراتهما: أشترط ألا تحتدَّ علي ولا تقلق، فقال محمد: أما أن لا أحتد فلا أشترط ذلك، ولكن لا يضرك ذاك عندي (٣).

وهذه الحدة التي قد تعرض لبعض المتناظرين وإن كان لا تعلق لها بصحة القول وفساده غير أن عامة الناس تضيق أنفسهم ممن يحتد في المناظرة وربما حكموا لخصمه عليه مهما عزبت أفهامهم عن إدراك دقة مجال المناظرة ومسارها. قال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ): (كنت أرى إذا تناظر اثنان في مسألة وكان أحدهما يناظر ويضحك، ظنت العامة أنه هو المصيب، فقضوا له على


(١) انظر: أمالي المرتضى (١/ ٢٧٣).
(٢) المنثور (٣/ ٣٩٨). وانظر تنبيهًا مهمًا لأبي حامد الغزالي في هذا في: إحياء علوم الدين (١/ ١٧٨).
(٣) انظر: مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ١٩١).

<<  <   >  >>