للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المناظرة التي انعقدت لأجله. قال المعلمي (ت ١٣٨٦ هـ): (من مكارم أخلاق الشافعي وكمال عقله وصدق إخلاصه أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمي من ناظره؛ لأن مقصوده إنما هو تقرير الحق ودفع الشبهات وتعليم طرق النظر، وتسمية المناظر يتوهم فيها حظ النفس، كأنه يقول: ناظرت فلانا المشهور فقطعته، وفيها غض من المناظر بما يبين من خطئه) (١). وعلى ذلك حمل صنيع الإمام البخاري (ت ٢٥٦ هـ) إذا قال في صحيحه عند نقد بعض الأقوال: (وقال بعض الناس) ثم لا يسميهم، مع أن من الناس من انتقد ذلك وحمله على التنقص إلا أن ترك البخاري لذكر المخالف فيه تلطف به وانصراف إلى المقصود بالحديث من ذكر الأقوال والحجج (٢).

فإذا استبان أن ظهور الحق هو الغرض من المناظرة، فإن الكُمَّل من الرجال لا يضيرهم ظهر الحق على يديهم أو يد من يناظرون، بل ربما نالهم من كمال الخُلُق والرأفة بالخَلق ما يكون معه ظهور الحق مع خصمهم أحبَّ إليهم، وهذا مشهور من سيرة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) الذي قال فيه محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الحكم (ت ٢٦٨ هـ): (لو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك)، وقال فيه أيضًا: (كنت إذا رأيت من يناظر الشافعي رضي الله عنه رحمته) (٣)، ومع هذا فقد قال الشافعي: (ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة)، وقال: (ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة)، وقال: (ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ) (٤)، وقال: (ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه) (٥). ومع مثل هذه النية


(١) التنكيل (١/ ٧٠٧) من مجموع آثار الشيخ.
(٢) انظر: الاتباع، ابن أبي العز (٢٩)، كشف الالتباس عما أورده البخاري على بعض الناس، الغنيمي (٥٩)، مذهب الإمام البخاري، محمد إسماعيل السلقي (١٢٧).
(٣) انظر في جميع هذا: مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ٢٠٨ - ٢٠٩).
(٤) انظر: آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم (٩١)، مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ١٧٣) وما بعدها.
(٥) الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (٤٧٥).

<<  <   >  >>