للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الصالحة فإن الله جل جلاله يوفق المرء ويسدده ويهديه لما اختلف فيه من الأمر بإذنه، وقد قال القاضي أبو يوسف (ت ١٨٩ هـ): (يا قوم أريدوا بعلمكم الله عز وجل، فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح) (١).

أما إذا عقدت مجالس المناظرة ثم اختل فيها هذا المعنى، وكان الغرض منها إرادة العلو والغلبة على الخصم والظهور عليه لمجرد ذلك دون تطلّب حق يكشف أو شبهة تُحل ولا انقياد لحجة تلوح، فإن هذا من البغي المذموم، وقد قال الله جل جلاله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: ٨٣]. قال أبو الوفاء بن عقيل (ت ٥١٣ هـ): (قال بعض مشايخنا المحققين: إذا كانت مجالس النظر التي تدَّعون أنكم عقدتموها لاستخراج الحقائق والاطلاع على عوار الشبه وإيضاح الحجج لصحة المعتقد مشحونةً بالمحاباة لأرباب المناصب تقربًا وللعوام تخونًا وللنظراء تعملًا وتجملًا، فهذا في النظر الظاهر. ثم إذا عولتم بالإنكار فلاح دليل يردكم عن معتقد الأسلاف والإلف والعرف ومذهب المحلة والمنشأ، خونتم اللائح وأطفأتم مصباح الحق الواضح إخلادًا إلى ما ألفتم، فمتى تستجيبون إلى داعية الحق؟ ومتى يرجى الفلاح في درك البغية من متابعة الأمر ومخالفة الهوى والنفس والخلاص من الغش؟ هذا والله هو الإياس من الخير، والإفلاس من إصابة الحق) (٢).

فمما مضى ذكره يعلم حكم المناظرة بين الفقهاء في مسائل الشريعة، وأنها مما يختلف حكمه بحسب ما يقوم بأصحابها من حضور داعي الإخلاص للحق أو غيابه، ومشروعيتها بالجملة أمر متفق عليه، قال ابن عبد البر (ت ٤٦٣ هـ): (وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج


(١) الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (٤٧٤).
(٢) ذكره في الفنون، ونقله المرداوي في التحبير (٧/ ٣٧٠٠)، وانظر: الفروع، ابن مفلح (١١/ ١١٧).

<<  <   >  >>