للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بالحجة، وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: ٦٦] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح سائغ لمن تدبر) (١).

وأما المناظرة التي لا يراد بها ابتغاء الحق ولا الانقياد له عند ظهور حجته، بل يعمد فيه كل واحد من المتناظرين إلى دفع قول الخصم وإبطال أدلته وإسقاط كلامه كيفما كان، لأجل مقصد فاسد من طلب جاه أو تقدم في المجالس أو غرض من أغراض الدنيا فهذا من الجدل المذموم المحرم (٢).

وذلك أن المناظرة يقصد بها-كما تقدم-الرغبة في ظهور الحق والانقياد إليه، فإذا انتفى منها هذا المعنى بقيت صورة المنازعة والمخالفة بلا طائل، وقد قال الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ): (إن العلم ليس كالتحرش بين البهائم والديكة) (٣).

قال عز الدين بن عبد السلام (ت ٦٦٠ هـ): (إن قيل: هل يثاب المتناظران على المناظرة أم لا؟ قلنا: إن قصد كل واحد منهما بمناظرته إرشاد خصمه إل ما ظهر له من الحق، فهما مأجوران على قصدهما ومناظرتهما؛ لأنهما متسببان إلى إظهار الحق. وإن قصد كل واحد منهما أن يظهر على خصمه ويغلبه، سواء أكان الحق معه أم مع خصمه فهما آثمان. وإن قصد أحدهما الإرشاد وقصد الآخر العناد، أُجِر قاصد الإرشاد، وأثم قاصد العناد) (٤).

ولأن جنوح المتصدر في مجالس المناظرة إلى ما تميل إليه النفوس من


(١) الجامع لأحكام القرآن (٤/ ٢٩٠).
(٢) انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح، ابن هبيرة (٩/ ٥٢)، الكافية، الجويني (٢٢)، إحياء علوم الدين، الغزالي (١/ ١٦٩)، الواضح، ابن عقيل (١/ ٥١٧)، علم الجذل، الطوفي (٧).
(٣) ترتيب المدارك، القاضي عياض (١/ ٢٢٢).
(٤) القواعد الكبرى (١/ ١٩٦).

<<  <   >  >>