للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

حب الجاه والشهرة كثير حصوله، فقد أفاض الفقهاء في ذم ما يجري من ذلك، وربما أطلق بعضهم ذم مجالس النظر لما عاينه من استيلاء حب التصدر على جملة من المتناظرين، وقد جاء في بعض وصايا سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ): (وإياك وحب الرياسة فإن من الناس من تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة) (١). ولهذا فقد انتقد جماعة من أهل العلم المتناظرين بأنهم يشتغلون بمفضول العلم عن فاضله؛ لأجل التفنن والتزين به في مجالس النظر، فانتقد أبو الحسن الماوردي (ت ٤٥٠ هـ) من يشتهرون بالمناظرة اشتهار المتبحرين حتى إذا سئلوا عن واضح المذهب ضلت أفهامهم، فيقصدون من العلم ما يشتهرون به من مسائل الجدل، ويتعاطون علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه! (٢). كما انتقد أبو الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) اشتغال المتناظرين بالمسائل الكبار التي يتسع فيها مجال الكلام، وربما لم يعرفوا الحكم فيما تعم به البلوى من المسائل. وانتقد أيضًا إيثار المتناظرين للجدال حول الأقيسة دون الأحاديث ليتسع لهم مجال النظر فيها، مع أن الأدب حاكم بتقديم الاستدلال بالأحاديث (٣).

أما أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) فقد تكلم عن آفات المناظرات فأفاض في ذلك، وانتقد آفات مجالس المناظرة في زمانه، وقد كان مشتغلًا بها حتى كفَّ عنها لمكان الآفات التي ذكرها (٤)، ونصح تلميذه بذلك في نصيحته المشهورة (أيها الولد) (٥). فمن كلامه في ذلك قوله: (والمشتغلون بالمناظرة


(١) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (١/ ٨٨)، حلية الأولياء، أبو نعيم (٦/ ٣٧٧).
(٢) انظر: أدب الدين والدنيا (٩٠).
(٣) انظر: تلبيس إبليس (١١٩).
(٤) انظر كلامه عن نفسه في هذا في: المنقذ من الضلال (١١٩)، وانظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٦/ ١٩٦)، وراجع كلامه في آفات المناظرات في الباب الرابع من كتاب العلم من ((إحياء علوم الدين)) (١/ ١٥٥ - ١٨٠)، والذي سماه (الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشروط إباحتها).
(٥) انظر: أيها الولد (٦٦).

<<  <   >  >>