للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه) (١). فما يتلقاه المتفقه من مثل أولئك يكون أثره راسخًا في نفسه، ظاهرًا في أخلاقه. قال سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ) واصفًا شيخه عمرو بن قيس: (هو الذي أدبني وعلمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض، فكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من بعض زوايا المسجد كأنه سارق قاعدًا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدًا ينوح على نفسه) (٢). وقال أبو الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) في استحضار مهيب لسمت أشياخه: (ولقيت عبد الوهاب الأنماطيَّ (ت ٥٣٨ هـ) فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي (ت ٥٤٠ هـ) فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا محققًا، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت. فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول) (٣).

فهذه المجالس التي هي بهذه الشاكلة من العلم والدين والأدب مجالس فضل وخير، وآثارها في الناس عظيمة جليلة، ولما نزل الحافظ عبد الغني المقدسي (ت ٦٠٠ هـ) مصر كان الناس يبكون في مجلسه، حتى قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ فأخرجنا من القبور (٤).

وقال أبو حازم الأعرج (ت ١٣٣ هـ): (لقد رأيتُنا في مجلس زيد بن أسلم


(١) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٢٨٤).
(٢) انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (٥/ ١٠١).
(٣) صيد الخاطر (٢٥٩).
(٤) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ١٣).

<<  <   >  >>