للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المسجد؟ فقال: دعهم فإنهم لا يتفقهون إلا هكذا (١).

وكان قاضي القيروان أبو العباس بن طالب (ت ٢٧٥ هـ) مشغوفًا بالمناظرة متطلعًا إليها، وكان يجمع في مجلسه بين المختلفين ويغري بينهما في المناظرة ويصل أهلها بالصلات الجزلة (٢).

فالمناظِر مع خصمه لا يكاد يرى الواحد منهما في حجة الآخر وهنًا إلا انقضَّ عليه من جهته، فيستفز خصمه إلى إحكام قوله وضبطه أو الرجوع عنه، وهذا مما تستحكم به مريرة المتفقه، ويتدرب عليه في مجالس المناظرة والمطارحة حتى يشتدَّ عوده، ومن لم يكن من أهل التحقيق والغوص في أصول المسائل ومبانيها دخل عليه الوهن ولم يثبت في المناظرة إلا باللجاج والمكابرة. فكان للمناظرة بذلك فضل التفهم والتأمل الذي يخرج بصاحبه عن جدِّ الاكتفاء بظاهر الخلاف، والاكتفاء بظاهر الخلاف دون فقه لمبانيه ومتعلقاته ضعف وعجز. قال أبو القاسم بن محرز القروي المالكي: (من لم يبلغ فكره إلى معرفة المعنى يفزع إلى الاستراحة من إتعاب فكره إلى التعلق بظاهر الاختلاف) (٣). والمتفقه لا يزال في جهدٍ من ذلك وعناء يتطلب منه كثرة المباحثة والمراجعة، حتى يعود ذلك له كالسجية والملكة التي استخرجها طول التعاهد والتدرب. قال أبو سليمان المنطقي (ت ٣٧١ هـ): (المناظرات دُربةٌ وتجربة) (٤).

٢ - تنظيم فكر المتفقه وتدريبه على الانضباط الفقهي والأصولي:

وذلك أن المناظرة لها أصولها وقواعدها التي من خرج عنها خرج من الضبط العلمي المنهجي إلى العبث والشغب، ولذا قال الفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ) لإنسان ناظره فأخذه اللجاج: (إنك الآن خرجت عن قانون البحث


(١) فضائل أبي حنيفة، ابن أبي العوام (١٠٨).
(٢) طبقات علماء إفريقية، الخشني (١٣٦).
(٣) سنن المهتدين، المواق (١٠٥).
(٤) ترتيب المدارك، القاضي عياض (٤/ ١٤٤).

<<  <   >  >>