للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والنظر وشرعت في تشغيب العوام والجهال) (١).

فلابد للمتناظرين أن يفقه كلٌّ منهما حقيقة قوله وحجته ووجوه الدلالة منها ويدرك مبناها ومآلها وما يرد من الاعتراض عليها، ثم يلتزم مع ذلك بآداب البحث والنظر العلمية والأخلاقية، فإذا اختلَّ ذلك لم تُعرف مزية العالم على الجاهل. قال المزني (ت ٢٦٤ هـ) لبعض مخالفيه في الفقه: من أين قلتم كذا وكذا؟ ولم قلتم كذا وكذا؟ فقال له الرجل: قد علمت يا أبا إبراهيم أنا لسنا لمِّية، فقال المزني: إن لم تكونوا لمية فأنتم إذن في عمِّية (٢).

ولهذا كان الفقهاء يعلِّمون طلبتهم ومناظريهم ضرورة الانضباط للخروج من المناظرة بنتيجة تعود على المتناظرين بالفائدة. ومثال ذلك نصيحة الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ) للمغيرة (ت ١٨٦ هـ) بعد مناظرته لأبي يوسف (ت ١٨٢ هـ) حيث سأله المغيرة: كيف رأيت مناظرتي للرجل؟ فقال: رأيتك مستعليًا عليه، غير أنك كنت تترك شيئًا. قال: وما هو؟ قال: كنت إذا ظهرت عليه في مسألة فضاقت به، أخرجك إلى غيرها وتخلص منك بذلك، وكان ينبغي لك ألا تفارقه فيها حتى تفرغ منها (٣). وكان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة عدا منها إلى غيرها قال له: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد (٤). وقال أبو محمد بن حزم (ت ٤٥٦ هـ): (واعلم أن من ترك ما هو فيه مع خصمه من المناظرة وخرج إلى مسألة أخرى، فجاهل مشغب منقطع، كمثل ما شاهدنا كثيرًا ممن ترك ما هما بسبيله، وجعل يتعقب لحن خصمه في كلامه، ولسنا نقول هذا نصرًا للحن ولكن نصرًا للحق وتركًا للاشتغال بغير ما شرعا فيه) (٥).

والفقيه أثناء المناظرة ربما نبَّهه خصمه إلى أمر لم يكن منه بحسبان، فأدرك من سياق الجدل مواضع الوهاء فيما يحتج به وله، فاستدرك الضعف


(١) مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر (٢٠).
(٢) جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (٢/ ٩٦٨).
(٣) ترتيب المدارك، القاضي عياض (١/ ٢٢١)، مع تصحيح بعض الكلمات من طبعة أخرى للمدارك.
(٤) مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ١٩٧).
(٥) رسائل ابن حزم (٤/ ٣٣٠).

<<  <   >  >>