للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فالمناظرة تبصِّر أطرافها بحقيقة قولهم، كما تُعرِّفهم بمآلات قولهم ولوازم مذهبهم وتبعات استرسالهم في معناه، فربما اضطرتهم المكابرة إلى التزام ذلك حتى يقولوا بما هو خارج عن كلام العقلاء، إلا أن يكون لهم من ذلك مخرج صحيح أو رجوع عن مذهبهم الذي بصرتهم المناظرة بمآلاته.

٤ - معرفة أقدار الفقهاء ومراتبهم والتفاضل بينهم:

ومن ذلك أن مناظرة الفقهاء الواردين على البلد من قبل فقهائه كانت سبيلًا إلى معرفة فضلهم ورتبتهم في العلم والفقه، وهذا كثير في الأخبار والسير، كأبي سعيد البوشنجي (ت ٥٣٦ هـ) الذي دخل نيسابور وحضر مجالس النظر فارتضاه الأئمة الفقهاء (١). وربما تولى بذلك خطة من خطط البلد من قضاء أو إفتاء ونحوه، كأبي معمر الروياني (ت ٥٣١ هـ) الذي دخل مرو وناظر فيها حتى فوَّض إليه وزيرها قضاءها (٢).

والتصرف في مضايق النظر في المجالس بحضرة الفقهاء بمقال سديد وجواب حاضر لا يكون إلا من ذوي الفهم الراسخ والمكابدة الطويلة للعلم ومسائله، قال ابن عبد البر (ت ٤٦٣ هـ): (ليس كل عالم تتأتى له الحجة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة، ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (٣). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ): (وليس كل من وجد العلم قدر على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلم شيء، وبيانه شيء آخر، والمناظرة عنه وإقامة دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفه شيء رابع) (٤).

وحسبك لتعلم فضل مثل هذا أن ترى في الناس مثل ذلك الذي حكى


(١) طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٧/ ٤٩).
(٢) التحبير في المعجم الكبير، السمعاني (١/ ٤٧٦).
(٣) جامع بيان العلم وفضله (٢/ ٩٦٨).
(٤) جواب الاعتراضات المصرية (٤٤).

<<  <   >  >>