للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عنه أبو الحسن الماوردي (ت ٤٥٠ هـ) فقال: (ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلًا يناظر في مجلس حفل وقد استدل الخصم عليه بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: هذه دلالة فاسدة، ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه! فأمسك عنه المستدل تعجبًا؛ لأن شيخه كان محتشمًا. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل رأي هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل عليَّ وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله. وصار سائر الناس المبرَّئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مُغرب) (١).

فمثل هؤلاء يصدق عليهم قول العز بن عبد السلام (ت ٦٦٠ هـ): (فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه! ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح.

فسبحان الله! ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته.

وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم) (٢).

٥ - التكامل العلمي:

فالمناظرة داعية إلى الاشتغال بعلوم لا تستقيم المناظرة بدونها، وربما دخل النقص في المناظرة من جهة فقدانها أو نقصانها، والمتفنن في العلوم أقدر على التخوض في المعاني المشتركة وكثرة الإيراد على الخصوم من العري من ذلك. بلى ربما كان الخصم راسخًا في فنه رسوخ المتمكن الذي يتسلط بعلمه ووفور عقله على إيرادات خصمه، غير أن الجامع بين الأمرين أكمل وأمكن من غيره. قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت ٢٢٤ هـ): (ما ناظرت قط رجلًا مفنَّنًا في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد من العلم


(١) أدب الدين والدنيا، الماوردي (١٢٢).
(٢) قواعد الأحكام (٢/ ٢٧٥).

<<  <   >  >>