للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المعنى الثاني: أن الفقهاء كانوا يتولون وظائف الوعظ وتشتمل مجالسهم في العلم عليه وتعقد لهم المجالس الوعظية، وهذا كثير جدًّا في أخبار الفقهاء، وتراجمهم مليئة بذكر مجالسهم في التذكير ووصفها. وقد سئل عطاء (ت ١١٤ هـ): ما مجلس الذكر؟ فقال: (مجلس الحلال والحرام وكيف تصلي وكيف تصوم وكيف تنكح وكيف تطلق وتبيع وتشتري) (١). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ): (ولما كان ذكر الله يعم هذا كله قالوا: إن مجالس الحلال والحرام ونحو ذلك مما فيه ذكر أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ونحو ذلك من مجالس الذكر) (٢)، وستأتي أمثلة لبعض هذا.

المعنى الثالث: أن الموعظة إنما يراد بها العمل، فهي أمر ونهي مقرون بترغيب وترهيب (٣). والله جل جلاله يقول في تنزيله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: ٦٦]. قال الفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ): (وإنما سُمِّي هذا التكليف والأمر وعظًا؛ لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظًا) (٤). وقد كان تذكير السلف ووعظهم بالقرآن والفقه (٥).

فإذا عُرفت هذه المعاني فليعلم أنه لم يزل من أمر الناس أن يكون الوعاظ والقصاص أكثر عددًا من العلماء. قال ابن عون (ت ١٥١ هـ): (أدركت هذا المسجد مسجد البصرة، وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة واحدة تنسب إلى مسلم بن يسار، وسائر المسجد قصاص) (٦). ولم يزل من أمر الناس كذلك أن يكون شهود الناس لمجالس الوعظ والتذكير أكثر من شهودهم لمجالس العلم؛ وذلك (أن العلم مخصوص لقليل، وأن القصص عام لكثير)،


(١) حلية الأولياء، أبو نعيم (٣/ ٣١٣).
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية (٣٢/ ٢٣٢).
(٣) انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (٣١٥).
(٤) مفاتيح الغيب (١٠/ ١٧٣).
(٥) انظر: كتاب القصاص والمذكرين، ابن الجوزي (٣٤٩).
(٦) تاريخ دمشق، ابن عساكر (٥٨/ ١٣٠).

<<  <   >  >>