للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كما قال أبو طالب المكي (ت ٣٨٦ هـ) (١). وربما انتفع العامة بالواعظ الصادق قليل العلم ما لا ينتفعون بالعالم الكبير (٢).

ومع هذا فإن أمر الدين متين، وفي العلم عصمة عن الوقوع في المهالك، والواعظ إذا كان قليل البضاعة في العلم فربما اجترأ على ما لا يحسنه، وتخوَّض بالجهل إلى الفرية في الشريعة بالزيادة فيها والنقص منها، رغبة في جاه أو مال أو صدارة، ولذا كثر في كلام جهلة الوعاظ والقصاص الكذب والتهويل، ثم يوفض الناس بعدُ في تصديقهم ومتابعتهم وتصديرهم.

قال ابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ): (ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فطر العقول! أو كان رقيقًا يحزن القلوب ويستغزر العيون) (٣). وقال أبو الوفاء بن عقيل (ت ٥١٣ هـ): (لو تمسك الناس بالشرعيات تمسكهم بالخرافات لاستقامت أمورهم) (٤).

ومن أجل هذا جاء في الآثار والأخبار عن السلف ما جاء من ذمِّ القصاص والتحذير منهم والنهي عن مجالستهم؛ لما يكثر منهم من الكذب والاجتراء على الكلام في الشرع بالجهل، وسوء الإرادات والتصورات، أو لما يتلبسون به من الأحوال المخالفة للهدي الأول (٥). قال أبو قلابة (ت ١٠٤ هـ): (ما أمات العلم إلا القصاص؛ يجالس الرجل الرجل القاص سنة


(١) قوت القلوب (١/ ٢٦٨).
(٢) كتاب القصاص والمذكرين، ابن الجوزي (١٧٤).
(٣) تأويل مختلف الحديث (٤٠٤)، وأشد من كلام ابن قتيبة قول المسعودي (ت ٣٤٦ هـ): (ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء، هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة والحجا؟ وتَفَقَّدِ العامة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مرقلين إلى قائد دبَّ، وضارب بدفِّ على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى مشعبذ متنمس مخرِّق، أو مستمعين إلى قاص كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفًا عند مصلوب). مروج الذهب (٢/ ٢٦).
(٤) الآداب الشرعية، ابن مفلح (٣/ ٣٨٤).
(٥) انظر طائفة من المآخذ التي سجلها العلماء على القصاص في: المدخل، ابن الحاج (١/ ٢٦٨) وفي (٢/ ١٣)، تلبيس إبليس، ابن الجوزي (١٢٣)، الباعث على الخلاص من حوادث القصاص، العراقي (٩٨)، أثر الوعظ والوعاظ في بغداد في القرن السادس الهجري، د. جهاد العلواني (٥٥).

<<  <   >  >>