للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكان منهم من يرحل في ذلك ويدخل القرى والمدن واعظًا، كالناصح بن الحنبلي (ت ٦٣٤ هـ) الذي اشتغل بالوعظ وبرع فيه وحصل له القبول التام، وكان يعظ في البلاد التي يدخلها، كمصر وحلب وإربل والمدينة النبوية وبيت المقدس وغير ذلك (١). بل ذكر ابن الأبار (ت ٦٥٨ هـ) عن بعض شيوخه أن امرأة يقال لها رشيدة الواعظة (كانت تجول في بلاد الأندلس، تعظ النساء وتذكرهن، وكان لها صيت واتصاف بالخير) (٢).

وكان لمجالس الوعظ هذه أثر كبير ونفع بالغ، لا سيما إن كان القائم بها فقيهًا محسنًا لصناعة الوعظ، وليجر الحديث حتى يتضح الحال في وصف مجلس من هذه المجالس الوعظية المشهورة، وهو مجلس أبي الفرج بن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ)، فقد كانت مجالسه الوعظية في بغداد معلومة ذائعة الصيت جدًّا. قال الذهبي (ت ٧٤٨ هـ): (وكان رأسًا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديهًا، ويسهب ويعجب ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله، فهو حامل لواء الوعظ والقيم بفنونه، مع الشكل الحسن والصوت الطيب والوقع في النفوس وحسن السيرة) (٣). وقال فيه ابن رجب (ت ٧٩٥ هـ): (وحاصل الأمر أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير ولم يُسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون) (٤). وكان الناس يزدحمون في مجالسه حتى يضيق بهم المكان، وربما أخذوا أماكنهم من وقت الضحى للمجلس بعد العصر، أو ازدحموا من نصف الليل لمجلسه يوم الجمعة، وحضر الخليفة المستضئ (ت ٥٧٥ هـ) مجلسه غير مرة، وكان يحبه ويعجبه وعظه، حتى قال فيه يومًا: (ما كأن هذا الرجل آدمي!) (٥). وقال فيه


(١) الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٣/ ٤٢٦).
(٢) التكملة لكتاب الصلة (٤/ ٢٥٩).
(٣) التكملة لكتاب الصلة (٤/ ٢٥٩).
(٤) الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٢/ ٤٨٠).
(٥) المنتظم، ابن الجوزي (١٨/ ٢٣٠)، وانظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٢/ ٤٦٩ - ٤٨٠).

<<  <   >  >>