للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذا الرجل الفذِّ في نفوسنا قدرًا ولم نستطب لها ذكرًا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات! الفتيان كثير، والمثل بمالك يسير!) (١). وكان من أثر مواعظ ابن الجوزي أن بقي الناس ينتفعون بها ويقرؤها العلماء والوعاظ في مجالسهم، فمن ذلك أن أبا الحسن علي بن محمد بن فرحون (ت ٧٤٦ هـ) كان له ميعاد وعظ كل جمعة بعد الصلاة على كرسي عال بالروضة الشريفة من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ من كلام ابن الجوزي في كتابه ((التبصرة) فكان بعض الناس يقول: عاش ابن الجوزي للناس! (٢).

وكانت مجالس الوعظ هذه تعقد في أوقات متفرقة وأماكن متعددة، حتى يتاح حضورها لمن لم يتفق له وقت أو مكان دون غيره، فوصول الوعاظ إلى الناس مطلب كانوا يحرصون عليه، ولذاك كانوا يتوخون الأوقات التي يتهيأ للناس فيها من الاجتماع ما لا يكون في غيرها كأيام الجمعة، وهذا أمر ملحوظ في سائر بلدان المسلمين شرقًا وغربًا، لما ليوم الجمعة فيهم من اختصاص زائد، ولما يكون لهم فيه من الاجتماع والفراغ (٣).

وقد تكلم العلماء في آداب الواعظ والقاص وما ينبغي أن يكون عليه مجلس الوعظ من السمت والشخوع والسكون، وأن يكون الواعظ قريبًا من الناس عارفًا بأحوالهم حتى يكون حديثه ملاقيًا لحاجاتهم، وأن يستعمل في وعظه الحكمة والخطابة والجدل مهما احتاج إلى شيء من ذلك (٤)، وألا يقطع الواعظ على الناس سبيل التأثر بالعظة بالأسئلة والمناقشات؛ لأن وجودها صارف عن الاستماع وقاطع للتأثر والاتعاظ، إلا أن يدعو إليها داعٍ شامل، إلى غير ذلك من الآداب والرسوم التي جاءت الوصية من العلماء بملاحظًتها واعتبارها (٥).


(١) رحلة ابن جبير (٢٠٠).
(٢) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، السخاوي (٣/ ٢٥٤)، وانظر أيضًا: معيد النعم، ابن السبكي (١١٤).
(٣) انظر على سبيل المثال: معجم السفر، أبو طاهر السلفي (٢٠٢)، الذيل والتكملة، المراكشي (٥/ ٤٨٦)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (٢/ ٥٢٦)، وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ١٦٨).
(٤) انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (١٤/ ٣٢٧).
(٥) انظر: إصلاح الوعظ الديني، محمد الخولي (١٨١).

<<  <   >  >>