للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولم يزل طلبة علم الفقه في هذه الأمة يتوارثونه كابرًا عن كابر، ويتحمله الآخر منهم عن الأول في مجالس كريمة تختلف في أغراضها وتتكامل في وظائفها، ما بين مجلس درس، ومجلس إفتاء، ومجلس قضاء، ومجلس مباحثة، ومجلس مذاكرة ومدارسة، ومجلس مناظرة، ومجلس تذكير، ولكلِّ مجلس منها هيئته ونظامه ورسومه وتراتيبه، يعرف ذلك من مارس هذه المجالس وخالط أهلها، فلا يشتبه عنده مقام الدرس بمقام المناظرة، ولا فتيا المفتي بحكم القاضي، فإذا نقل ناقل أو كتب كاتب شيئًا من ذلك فاشتبه أمره على من لا يعلم ميَّز ذلك من يعلم. وربما جرى الغلط من بعض من لم يكن لم تمييز صالح بين هذه المقامات فنسب إلى بعض الأئمة قولًا لم يقل به، أو دليلًا لا يستدل به.

ولمَّا اشتبه اختلاف أقوال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) على بعض الناس، ألَّف أبو العباس بن القاص (ت ٣٣٥ هـ) كتابه ((نصرة القولين للإمام الشافعي)) فقال في أوَّله: (معاشر إخواني المتفقهين، فقد اتصل بي ما أنهيتم إلى من الرغبة، وذكرتم ما حلَّ بكم من الحاجة إلى الحجة فيما عيركم به الكوفيون، وثلبكم به المخالفون من اختلاف قولي الشافعي رضي الله عنه وتخريجه المسألة الواحدة على الأقاويل المختلفة، وزعم أن كثرة الأقوال على تباينها لا تكون إلا من مبتغي التلبيس. وهكذا من قلَّ علمه ضاق بكثرة الأقاويل ذرعه، إلا من تبحر في العلوم فلاحت له حكمة تغاير الوجوه) (١). ثم شرح في الكتاب وجوه اختلاف أقوال الشافعي وأنه ربما ذكر القول على سبيل المحاجة، أو على طريق الحكاية، أو على جهة امتحان المتعلمين، أو على وجه التخيير، أو الاحتياط، وغير ذلك من الوجوه التي ساقها مع التمثيل لها من كلام الشافعي (٢). وهذه الوجوه إنما تلتبس على من يتسور العلم تسوُّرًا فلا يأتي البيوت من أبوابها، ثم يُخلِّط في فهمه ونسبته إلى الفقهاء وحكايته عنهم فيجني عليهم وعلى نفسه بذلك.

ومن أجل ذلك فقد حذَّر أهل العلم من مخاطبة العامة بخطاب الخاصة، وقد جاء في بعض كلام الجاحظ (ت ٢٥٥ هـ): (لا تكلم العامة بكلام


(١) نصرة القولين (٥٤).
(٢) انظر: نصرة القولين (١٠٧).

<<  <   >  >>