للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة) (١)؛ وذلك أن العامة ليس لهم من مفاتح العلم وأدواته ما يخوِّلهم فهم دقيق الفقه واختلاف أحواله. قال ابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ): (لا يصلح لإيداع الأسرار كل أحد، ولا ينبغي لمن وقع بكنز أن يكتمه مطلقًا، فربما ذهب هو ولم ينتفع بالكنز، وكما أنه لا ينبغي للعالم أن يخاطب العوام بكل علم، فينبغي أن يخص الخواص بأسرار العلم؛ لاحتمال هؤلاء ما لا يحتمله أولئك، وقد علم تفاوت الأفهام) (٢). وفي البخاري وغيره قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: (إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسُّنَّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها)، فقبل عمر رضي الله عنه مشورته ولم يتكلم بذلك حتى قدم المدينة (٣). قال الوزير ابن هبيرة (ت ٥٦٠ هـ) في شرح الحديث: (وفيه أيضًا أن علم الفقه والدقيق من الأحكام ينبغي أن يُتوخى بنشره خواص الناس ووجوههم وأشرافهم، ممن تقدمت منه الدرجة، فيضع كل شيء منه على موضعه) (٤). ولذا فقد أفتى عز الدين بن عبد السلام (ت ٦٦٠ هـ) بأنه لا يجوز إيراد الإشكالات القوية بحضرة العوام؛ لأنه سبب إلى إضلالهم وتشكيكهم.

قال: (وكذلك لا يتفوه بهذه العلوم الدقيقة عند من يقصر فهمه عنها فيؤدي ذلك إلى ضلالته) (٥). فمن المعلوم أن (تشكيك الضعفاء بأدنى خيال ممكن) (٦).

ومن عادة أهل العلم التفريق بين مجالس العامة ومجالس الخاصة،


(١) ذكره عنه الشريف المرتضى في أماليه (١/ ١٩٦)، ولم أعثر عليه في كتب الجاحظ. وانظر شيئًا من بيان هذا المعنى في: النبأ العظيم، محمد دراز (١١٣).
(٢) ذكره في ((السر المكتوم)) وحكاه عنه ابن مفلح في: الآداب الشرعية (٢/ ١٨٦).
(٣) صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (٦٨٣٠).
(٤) الإفصاح (١/ ١٣٣).
(٥) الأشباه والنظائر، ابن السبكي (٢/ ٣٢٥).
(٦) تهافت الفلاسفة، الغزالي (٨٩).

<<  <   >  >>