للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأن يستعمل لكل نوع منها ما يلائمه من العلم والأدب، وأن يُخصَّ بأصول العلم وغوامضه من فرَّغ نفسه للعلم وقصد له (١). ولما سأل المغيرة بن عبد الرحمن (ت ١٨٦ هـ) مالكًا (ت ١٧٩ هـ) في مجلسه عن بعض قوله من أين يقوله؟ لم يجبه جوابًا شافيًا، قال المغيرة: ثم رآني في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاني فقال لي: (يا أبا هاشم، إنك تكرم علي، ولي عليك من الحق ألا تسلني عن مثل ما سألتني عنه بالأمس؛ لأنك تفتح علي بابًا مغلقًا والمجلس محتفل، لكن اكتب ما تريد أن تسلني عنه ووجِّه به إلى تحت ختمك فإني أجيبك عنه) (٢). وبالجملة فالفرق بين المجالس العامة والخاصة أمر مشهور وحاصل في علم الفقه وغيره، وهو أمر لابد منه في معنى العلم نفسه، فإن من العلم ما تحتمله عقول الناس كافة، ومنه ما لا يحتمله إلا الخاص منهم ممن توفرت فيهم شروط علمية وعقلية وأخلاقية أخص من غيرهم، وهذا أمر متقرر شرعًا وعقلًا وعرفًا (٣).

والمراد بيانه ههنا أن طلبة العلم والفقه في الدين في طلبهم لهذا العلم وتطوافهم في مجالس الفقه ومجامعه لتحصيله والترقي في درجاته، فهم ينالون من ميراث العلماء علم الشريعة وآدابه وطرائق تلقيه والرسوم العلمية في مجالسه، فيفهمون الحديث على وجهه، ولا ينتزعونه من سياقه، ولا يضربون الكلام ببعضه، فإن عزبت أفهام بعضهم أو أفهام غيرهم عن درك ذلك فلا يجوز أن يغيب عن جميعهم، ولم يزل التحقيق في أهل العلم بالمكان الذي لا يجهل، ومتى خلط خالط بين مقام وآخر تصدى أهل العلم لبيان الغلط أو


(١) انظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (١٢٨).
(٢) التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (٨٥).
(٣) انظر: المجالس والثقافة العربية، د. علي أومليل، مجلة المناظرة، العدد الثالث (٧). وقد ذكر ابن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ) في خطبة كتابه ((المعارف)) أنه صنف الكتاب ليكون معينًا لمن تعلمه وتحفَّظه على حضور المجالس العلمية والمحافل الشريفة فقال: (هذا كتاب جمعت فيه من المعارف ما يحق على من أنعم عليه بشرف المنزلة، وأخرج بالتأدّب عن طبقة الحشوة، وفضّل بالعلم والبيان على العامة، أن يأخذ نفسه بتعلمه، ويروضها على تحفّظه؛ إذ كان لا يستغني عنه في مجالس الملوك إن جالسهم، ومحافل الأشراف إن عاشرهم، وحلق أهل العلم إن ذاكرهم فإنه قلّ مجلس عقد على خبرة، أو أسس لرشد، أو سلك فيه سبيل المروءة، إلا وقد يجري فيه سبب من أسباب المعارف)، المعارف (١)، وانظر: الحياة العلمية في العراق خلال عصر نفوذ الأتراك، زيني الحازمي (١/ ١٤٨).

<<  <   >  >>