للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ب- مجلس المناظرة مجلس يقصد فيه كل واحد من الطرفين إلى الانتصار لمذهبه، فيحتج لقوله ويعترض على خصمه ويجيب عن إيراده، فيظل المناظر متيقِّظًا مستجمعًا لذهنه مستحضرًا لبديهته، وهذه الحال مما تختلف به طبائع الناس وربما دخلت على كثير من المناظرين الحدة بسبب ذلك؛ فإن (كثرة المراجعة تغير الطباع) (١)، ومن ثمَّ فقد تنقل في مجالس المناظرة من أخلاق الحدة والمغالبة ما يكون على غير المحفوظ من أخلاق الفقيه من استعمال الوقار في هيئته ومجلسه، وقد كان طوائف من الفقهاء الذين عرفوا بفضل السمت في مجالسهم يتنزهون عن المناظرة لأجل هذا المعنى وشبهه.

ومن المشهور في سيرة الإمام مالك (ت ١٧٩ هـ) اصطفاؤه بعض أصحابه للمناظرة وهو حاضر معهم، كما حضر بعثمان بن كنانة (ت ١٨٦ هـ) مناظرة أبي يوسف (ت ١٨٢ هـ) في مجلس الرشيد (ت ١٩٣ هـ)، فسأله الرشيد: ولم لا تناظره أنت يا أبا عبد الله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يجيبه ابن كنانة فإن عجز أجبته أنا (٢). وألحَّ عليه الرشيد مرةً لمناظرة أبي يوسف وهو ساكت، فقال عبد الملك بن الماجشون (ت ٢١٣ هـ): إن شيخنا يا أمير المؤمنين قد جلَّ عن المناظرة والكلام، ونحن تلاميذه نقوم مقامه، فنحن نناظره ونتكلم عنه، فإن رأى خطأ لم يسكت عليه، فقال هارون: ذلك (٣). وكان الإمام مالك كذلك يأمر ابن الماجشون بمناظرة أهل العراق، وكان يخرج به إلى البطحاء، فلا يبرح والناس معه حتى يفلج على الخصم (٤). وقيل في فقيه القيروان يحيي بن عمر الكناني (ت ٢٨٩ هـ) الذي وُصف بالفقه والإمامة والضبط: (وكان من الوقار والسكينة على ما يجب لمثله، تأدب في ذلك بآداب مالك. وكان لا يفتح على نفسه باب المناظرة، وإذا ألحف عليه سائل أو أتاه بالمسائل


(١) الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (٦٨٣).
(٢) التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (٨٧).
(٣) ترتيب المدارك، القاضي عياض (١/ ٢٢٢).
(٤) التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (٩٥).

<<  <   >  >>