للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

د- هل للقاضي أن يفتي؟ جرى في ذلك الخلاف بين الفقهاء، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، وقد روى عطاء بن السائب (ت ١٣٦ هـ) فقال: سألت شريحًا (ت ٧٨ هـ) فقلت: يا أبا أمية أفتني، قال: إني لست أفتي، ولكن أقضي (١). فالذين منعوا ذلك ذهبوا في تعليل المنع إلى اتجاهين (٢):

الاتجاه الأول: لاحظ أصحابه معنى اشتغال القاضي بالقضاء عن غيره، ولذا رخصوا له بالفتيا في غير مجلس القضاء. قال السرخسي (ت ٤٩٠ هـ): (ومنهم من يقول: لا يفتي في مجلس القضاء، وله أن يفتي في غير مجلس القضاء؛ لأنه لو اشتغل بها في مجلس القضاء وكل واحد منهما أمر عظيم فربما يتمكن الخلل في أحدهما وهو متعين للقضاء، فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره) (٣).

الاتجاه الثاني: لاحظ أصحابه أن مقام القضاء مقام حكم وفصل بين الناس في خصوماتهم، والناس لم يزل فيهم من يبتغي التشويش على القاضي والتشغيب عليه والتلبيس عليه بالحجاج، فمنعوا القاضي من الإفتاء لئلا تتخذ فتواه ذريعة لمثل هذا التلبيس والتشغيب، فيكون القاضي كالملقن والمعلم لهم (٤). وتعددت عبارات الفقهاء في أداء هذا المعنى، فمنهم من منع الفتوى في مجلس الحكم مطلقًا، وكان سحنون (ت ٢٤٠ هـ) إذا أتاه رجل يسأله عن مسألة من مسائل الأحكام لم يجبه، وقال: هذه مسألة خصومة. إلا أن يعلم منه إرادة التفقه، وذلك يعرف بالقرائن كأن تأتيه الفتوى من خارج البلد، أو يكون السائل من الطلبة الذين شأنهم تعلم الأحكام (٥)، وقد كان أبو يوسف


(١) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٢٩٥).
(٢) ليس من المقاصد هنا استيفاء الأقوال في المسألة وتحريرها، بل الغرض ذكر اختلاف مقام القضاء والفتيا وأثره في اتجاهات الفقهاء في المسألة، وللاطلاع على الأقوال والحجج فيها. انظر: اجتهاد القاضي وفتواه، حمدان آل شراب (١٨٣).
(٣) المبسوط (١٢/ ٥١)، وانظر: صنوان القضاء وعنوان الإفتاء، الأشفورقاني (١/ ١٦٩).
(٤) انظر: المحيط البرهاني، ابن مازه (١٢/ ١٨٠)، حاشية الدسوقي (٤/ ١٣٩)، أدب الفتوى، ابن الصلاح (٥٨).
(٥) انظر: الذخيرة، القرافي (١٠/ ٦٨)، حاشية الدسوقي (٤/ ١٣٩).

<<  <   >  >>