للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يعرفون أن يفتوا، وأن خاصية المفتي تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي، وذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته، ولهذا نجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به في الفقه، ليس لقصور ذلك المفتي معاذ الله، بل لأنه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص فلا يطَّرد في جميع صورها، وهذا قد يأتي في بعض المسائل، ووجدناه بالامتحان والتجربة في بعضها ليس بالكثير، والكثير أنه مما يتمسك به، فليتنبه لذلك فإنه قد تدعو الحاجة إليه في بعض المواضع، فلا نلحق تلك الفتوى بالمذهب إلا بعد هذا التبصر) (١).

٢ - فهم كلام أهل العلم على وجهه، والنظر إلى سياقه واختلاف مقام العالم فيه؛ فإن اختلاف السياقات مؤثر في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولا تنبغي العجلة في شيء من ذلك قبل الاطلاع على غرض الكلام الذي صدر عنه. ولما قال محمد بن الحسن (ت ١٨٩ هـ) للشافعي (ت ٢٠٤ هـ): بلغني أنك تخالفنا في الغصب. قال له الشافعي: أصلحك الله، إنما هو شيء أتكلم به على المناظرة (٢). فكان مقررًا عندهم أن ما يناظر عليه المناظر لا يكون بالضرورة قولًا له، بل ربما كان يناظر عن قول لم يتحرر له بعد على سبيل الاختيار، أو يناظر عن مذهب إمامه وله اختيار يخالفه، أو تكون المناظرة على جهة التعليم، أو غير ذلك. قال البيهقي (ت ٤٥٨ هـ) معلِّقًا على تكذيب الربيع (ت ٢٧٠ هـ) لمن حكى قولًا للشافعي في بعض المسائل يخالف المشهور من مذهبه: (يحتمل أن يكون صادقًا في هذه الحكاية، وهذا مختصر من حكاية ابن عبد الحكم عن الشافعي في مناظرة جرت بينه وبين محمد بن الحسن في عيبه أهل المدينة بذلك، وذبّ الشافعي عنهم على طريق الجدل، فأما المذهب فما وضعه في كتبه المصنَّفة من تحريمه) (٣). وقد روى حماد بن


(١) فتاوى السبكي (٢/ ١٢٢).
(٢) مناقب الشافعي، البيهقي (١/ ١٠٧).
(٣) مناقب الشافعي (٢/ ١٢)، وقد قال الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ) في إشارة للفرق بين هذين المقامين: (وأفضل النظار وأقدرهم من أجاب عن السؤال بجواب نظري يحرس به قوانين النظر وقواعده، ثم يجيب بجواب يبيِّن فيه فقه المسألة)، الفقيه والمتفقه (٥٢٣).

<<  <   >  >>