للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم (١)، وحديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه حين شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها)) (٢). وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((وافقت ربي في ثلاث)) (٣)، وهي من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه واقتدائهم به، فهذا الطريق نافع على كل تقدير) (٤).

فإذا تقرر هذا فإن الجلوس إلى العلماء ليس على مرتبة واحدة بل هو مراتب شتى، فما يلقيه العالم في مجلس درسه على الملأ ليس كالذي ينهيه للخاصة من تلامذته، وليس كالذي يستجمع له ذهنه عند التصنيف من التحرير والتحقيق والتدقيق، بل لقد ذكر الشهاب الخفاجي ونقل (ت ١٠٦٩ هـ) أن من الألفاظ المولدة المشهورة في كلام المصنفين استعمال كلمة (تدريس) في الكلام الظاهري الذي يقال في مجالس التدريس من غير تحقيق، فهو بخلاف الكلام التحقيقي الذي يثبت في الكتب والصحائف، وربما قال فيه بعضهم: (كلام مسجدي)؛ لأن حلق التدريس في المساجد (٥). وليس في هذا انتقاص لمقام التدريس ومكانته، بل فيه تنبيه لاختلاف مقام التدريس عن مقام التحقيق، فالتدريس أخذ لجادة العلم وبيان لمشهوره، أما التحقيق والتدقيق فله


(١) جاء عند أحمد (١٣٣١٢) وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
(٢) هذا لفظ الترمذي (٢٤٥٢)، وعند مسلم (٢٧٥٠): ((لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)).
(٣) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة (٤٠٢)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (٢٣٩٩).
(٤) الموافقات (١/ ١٤٥).
(٥) شفاء الغليل (٦٥).

<<  <   >  >>