للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

مقام آخر، وقد كان للخاصة من المتفقهين مع أساتذتهم مجالس خاصة ينهضون فيها لمقام التحقيق والتدقيق، وربما قرأ الواحد منهم الكتاب على شيخه قراءتين أو أكثر فتكون إحداهما قراءة درس، والأخرى قراءة بحث وتدقيق، وهذا كثير في أخبارهم (١).

٣ - معرفة أقدار أهل العلم وما يفتحه الله للواحد فالواحد منهم من المواهب والملكات، فالعلم حظوظ كحظوظ المال، فرُبَّ عالم فتح عليه في التعليم ما لم يفتح عليه في القضاء والمناظرة (٢)، ورُبَّ فقيه مقدَّم في الفتيا لا يحسن التأليف ولا يشتغل به، ومن اجتمعت همته على ما وافق طبعه فأتقنه وأحسن فيه لم يجمل الاستدراك عليه بما لا يوافق طبعه من المذاهب ولا عيبه بترك الاشتغال بها.

قال حبيب بن الشهيد (ت ١٤٥ هـ): قال لي إياس بن معاوية (ت ١٢٢ هـ): (إن أردت الفقه فعليك بمعلمي ومعلم أبي الحسن بن أبي الحسن، فإن أردت الفتيا فعليك بعبد الملك بن يعلى، وإن أردت القضاء فعليك بعباد بن منصور، وإن أردت الصلاح فعليك بحميد الطويل، وإن أردت الشغب فعليك بصالح السدوسي) (٣). ومع هذا الثناء من إياس على الحسن (ت ١١٠ هـ) في الفقه فقد قال مرة لمن نقل له اعتراض الحسن على قضية له: (إذا جاء الحسن فقل له


(١) ذكر ابن رجب-على سبيل المثال-في ترجمة شمس الدين بن المنجَّى (ت ٦٤١ هـ) أنه رأى نسخة ((المستوعب)) وقد قرأها ابن المنجى على والده (قراءة بحث). انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (٣/ ٤٩٢)، وسوف يأتي أمثلة أخرى لذلك.
(٢) وهذا كثير في السير والأخبار، فيشتهر عن العالم توقيه المناظرة حتى يظن به النقص وما به النقص، ولكنه ليس من أهل الكلام في المحافل. قال المسعودي (ت ٣٤٦ هـ): (وكان محمد بن يزيد المبرد يحب أن يجتمع في المناظرة مع أحمد بن يحيي-يعني: ثعلب-ويستكثر منه، وكان أحمد بن يحيي يمتنع من ذلك. وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي الفقيه-وكان صديقهما-قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختن ثعلب: لم يأبى أحمد بن يحيي الاجتماع مع المبرد؟ فقال لي: أبو العباس محمد بن يزيد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وأحمد بن يحيي مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم لهذا على الظاهر إلى أن يعرف الباطن). مروج الذهب (٢/ ٥٠٠).
(٣) أخبار القضاة، وكيع (١/ ٣٥٠).

<<  <   >  >>