للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فكان على أكمل هيئة يكون عليها معلِّم، كما كان أصحابه على أكمل هيئة يكون عليها متعلم. ومع ذلك فقد آتاه الله من حسن التعليم وأساليبه ووسائله، ومن حسن تربية أصحابه وتزكية نفوسهم وإصلاح أخلاقهم ما هو معلوم مشهور، وقد قال فيه معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه) (١).

فهذه الحال التي كان عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في التعليم كانت أكمل الأحوال، فإن من الناس من يكون غزير العلم تام المعرفة جليل الحكمة، غير أنه ليس له من أدوات البيان ما يتمكن به من توريث علمه، أو لا يتهيأ له من طلبة العلم من يكونون بإزاء تعليمه وتفهيمه، وقد روي من كلام الليث بن سعد (ت ١٧٥ هـ): (ما هلك عالم قط إلا ذهب ثلثا علمه ولو حرص الناس) (٢). ومتى اجتمع في المعلِّم العلم الراسخ مع البيان التام، وتوافر في أصحابه الفهم والحرص والنجابة وحسن النية أفلح التعليم ورشد، ولم تجتمع هذه الهيئة قط كما اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنه.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالغيث الذي أغاث الله جل جلاله به الأرض، وكان أصحابه رضي الله عنه كالأودية التي تجري في الأرض فتحيا بها البلاد والعباد. قال شهاب الدين القرافي (ت ٦٨٤ هـ) واصفًا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا بحارًا في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة... مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرأوا كتابًا، ولا تفرغوا من الجهاد وقتل الأعداء، ومع ذلك فإنهم كانوا على هذه الحالة


(١) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (٥٣٧). وراجع في كمالاته وأساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم كتاب ((الرسول المعلم))، د. عبد الفتاح أبو غدة. واقرأ في وصف مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مقالًا مهيبًا للطاهر بن عاشور بعنوان ((مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم)) في: جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور (٢/ ٦٦٣).
(٢) ربيع الأبرار، الزمخشري (٣/ ٢٩٥). ويشبه هذا المعنى قول إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (ت ١٣٢ هـ): (يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتي السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتي الناطق من سوء فهم السامع)، قال أبو عثمان الجاحظ (ت ٢٥٥ هـ): (أما أنا فأستحسن هذا القول جدًّا).
البيان والتبيين (١/ ٨٧).

<<  <   >  >>