للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومدخله ومخرجه وسمته وهديه وتصريحه وتلميحه وإشارته ومن شأنه كله، وكذلك العلماء الذين هم ورثته صلى الله عليه وسلم ليس الأخذ عنهم يقتصر على حفظ المسائل ونقلها، بل في مجالس الفقه إلحاق للأواخر بالأوائل، ووصل لخلف الأمة بسلفها في العلم والعمل والفقه والأدب واليقين.

ولا يضير المعلم في ذلك أن يكون المتعلم أعلم منه، فإن المتعلم ربما كان كذلك، قال أبو عثمان بن الحداد (ت ٣٠٢ هـ): (المتعلم قد يكون أعلم من المعلم وأفقه وأفضل) (١)، ومع ذلك فإن الشيخ ربما كان معه من الحكمة ومعرفة وجوه العلم ما هو مفتقر إلى طول الاشتغال وامتداد الزمان وكثرة التجارب، فيكون أقعد بالعلم وإن كان بعض طلبته أكثر منه علمًا. وقد سمع الأحنف (ت ٦٧ هـ) رجلًا يقول: (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر) فقال الأحنف: (الكبير أكبر عقلًا، ولكنه أشغل قلبًا) (٢). ومعاودة العلم ومراجعته مما يتجدد به الفهم مع تطاول الزمان، ويبدو لصاحبه منه بالتفكر فيه وبانضمام غيره إليه، والتفطن لشواهده وأمثاله ونظائره ما كان عازبًا عن ذهنه أول أمره، فيكون للكبير بذلك فضل على الصغير وإن فاقه معرفة. قال ابن سينا (ت ٤٢٨ هـ) واصفًا دراسته للعلم: (فلما بلغت ثمانية عشر عامًا من العمر فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء) (٣).

وقد جرت لأبي يوسف (ت ١٨٢ هـ) مع شيخه أبي حنيفة (ت ١٥٠ هـ) حكاية مشهورة، حيث مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أبو حنيفة مرارًا فلما رآه ثقيلًا استرجع وقال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم إن أبا يوسف رزق العافية وخرج من العلة، وأُخبر بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه،


(١) رياض النفوس، المالكي (٢/ ٨٧)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (١٤/ ٢١١).
(٢) البيان والتبيين، الجاحظ (١/ ٢٥٧).
(٣) تاريخ الإسلام، الذهبي (٢٩/ ٢٢٢)، الطبقات السنية، الغزي (٣/ ١٣٩).

<<  <   >  >>