للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

د. بشار معروف: (والحق أنني قلَّما وجدت عالمًا كبيرًا تعاني هذه العلوم من غير أن يكون له مسجد) (١). ويمكن إحالة ذلك إلى سببين رئيسين: الأول منهما عموم الانتفاع بمجالس التعليم في الجوامع، وقد مضت الإشارة لهذا في كلام ابن الحاج، والثاني أن التعليم في الجوامع والمساجد أقل تعرُّضًا للشروط والعوائق التي تمنع أو تقيِّد حرية التعليم فيها، فلا يخضع لشروط الواقفين في المدارس ونحوها، ولا تختص بمذهب دون غيره، واختصاصها بمذهب بعينه طارئ على تاريخ التعليم، فأما القرون الأولى فلم يكن فيها شيء من ذلك.

قال الوزير ابن هبيرة (ت ٥٦٠ هـ): (فأما ما حدث في زماننا هذا من كون المساجد قد اقتسمها أهل المذاهب، فيقول هؤلاء: هذه مساجد أصحاب أحمد فيُمنع منها أصحاب الشافعي، وكذلك يقول أصحاب الشافعي: هذه مساجد أصحاب الشافعي فيمنع منها أصحاب أحمد، وكذلك يقول أصحاب أبي حنيفة، فإن هذا من البدع) (٢).

وبالإضافة إلى شروط الواقفين فإن الجرايات والأرزاق التي تجري على الفقهاء في المدارس من السلاطين والأمراء لها أثرها في تقييد حرية المعلم في أن يتحدث بما يعتقده ولو خالف مراد صاحب الجراية من سلطان أو واقف أو غيره. قال السخاوي (ت ٩٠٢ هـ): (ومما بلغنا أن بعض ندماء الأشرف برسباي مدحه بكون أغنى الفقهاء بما انفرد به عن كثيرين ممن قبله؛ يعني: بأنه بني مدرسة بالقاهرة وبالصحراء وبالخانقاه وغير ذلك، فقال: إن من سبقنا كان فقهاؤهم غير موافقين لهم، فقصروا في جانبهم لذلك، وفقهاؤنا لا يخالفونا، فلا أقل من أن نسمح لهم بحطام الدنيا. قلت: وهذا قد كان، وأما الآن فالموافقه حاصلة، والانقياد بالحطام دون الحطام، بل هم مزاحمون


(١) التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي (٦٢). وانظر: دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين، د. محمد سعد الدين (٤١).
(٢) الإفصاح (٩/ ٥٤)، وانظر: إعلام الساجد، الزركشي (٣٩٧).

<<  <   >  >>