للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

في أرزاقهم المرصدة لهم ممن قبلهم غفر الله لنا ولهم) (١).

وبعد هذا فإنه لا ينبغي أن يقال بأن الأمر ما دام كان كذلك في القرون الأولى فليكن التدريس مقصورًا على الجوامع والمساجد كما كان في تلك الأزمنة العلمية الزاهرة، فإنه قد علم أن الحركة العلمية ليست مختصة بمكان التعليم، بل هي حالة شاملة تتدخل فيها مؤثرات علمية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وكل ذلك كان في الزمان الأول مسعفًا ومساعدًان بخلاف الأزمنة المتأخرة التي راح الناس فيها يتداركون ما يطرأ من نقص في العلم والهمة وإسعاف الزمان بالتزام رسوم وآداب واتخاذ تدابير تسدُّ مسدًّا وتغني غناءً وإن لم يكن الخير فيها محضًا أو لم تكن المفسدة فيها مدفوعة بالكلية (٢)، فإنشاء المدارس وتسبيل الأوقاف عليها وبناء المساكن الملحقة بها لإيواء الطلبة كان فيه تلاف لنقص الهمة وقلة المساعد، وقد كان من أخبار السلف المتقدمين في الصبر على طلب العلم وتحمل المشاق والجوع والفقر والغربة والأذى ما هو مشهور معلوم، فكان في المدارس وأحباسها تشجيع وتحفيز يتلافى ما طرأ من فساد الحال مما كان الأوائل في غنية عنه (٣).

وقد نقل شهاب الدين المقَّري (ت ١٠٤١ هـ) عن جده الشيخ أبي عبد الله (ت ٧٥٩ هـ) في كلام مهم يصف شيئًا من ذلك فقال: (وقال أيضًا رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا الآبلي (ت ٧٥٧ هـ) يقول: إنما أفسد العلم كثرة التواليف، وإنما أذهبه بنيان المدارس. وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين.

وإنه لكما قال، غير أن في شرح ذلك طولًا، وذلك أن التأليف نسخ الرحلة


(١) الإعلان بالتوبيخ (٨٤). وانظر: المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (٧٠).
(٢) تأمل مثلّا في قول ابن الحاج (ت ٧٣٧ هـ): (والغالب أنه لا يقصد أخذ الدرس في المدرسة إلا لأجل المعلوم، فإذا كان ذلك كذلك فينبغي له إذا أخذ الدرس في المدرسة أن يأخذ بتلك النيات التي وصفت في المسجد وتلك الآداب. بل ينبغي له أن يزيد في إخلاص نيته ويدفع الشوائب عن نفسه لئلا يتعلق خاطره بالمعلوم أو يلتفت إليه بقلبه، بل يكون ذلك على سبيل الامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم). المدخل (٢/ ١٠١).
(٣) انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار معروف (٩٠).

<<  <   >  >>