للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

التي هي أصل جمع العلم، فكان الرجل ينفق فيها المال الكثير، وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير؛ لأن عنايته عل قدر مشقته في طلبه، ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن، فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه، فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر، وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر، وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه الجرايات، فيقبل بها على من يعيِّنه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم، أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم، ويصرفونها عن أهل العلم حقيقة الذين لا يُدعون إلى ذلك، وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم) (١).

وقال حاجي خليفة (ت ١٠٦٧ هـ): (ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ونطقوا به. لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماءَ يُنتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببًا لارتفاعه) (٢).

ومع ذلك فقد ظلت مجالس التعليم باقية وكثيرة في الجوامع ولم تنتقل عنها ببناء المدارس (٣)، بل ربما نقل بعض المدرسين دروسهم من المدارس إلى المساجد لا سيما في الحرمين الشريفين (٤)، والذي يؤهل العلماء للجلوس


(١) انظر: نفح الطيب (٥/ ٢٧٥)، وانتقاد المؤسسات التعليمية بشأن تقييد الحرية العلمية فيها أمر مشهور عند المتقدمين والمعاصرين. يقول ميشيل فوكو (ت ١٩٨٤ م) في مناظرته المشهورة مع نعوم تشومسكي: (ويعرف المرء أن الجامعة وكل الأنظمة التعليمية بشكل عام، التي تبدو أنها تنشر المعرفة ببساطة، مصنوعة للحفاظ على طبقة اجتماعية محددة في السلطة، ولإقصاء أدوات السلطة عن طبقة اجتماعية أخرى). عن الطبيعة الإنسانية، نعوم تشومسكي وميشيل فوكو (٦٠).
(٢) كشف الظنون (١/ ٢٢).
(٣) انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار معروف (٩٢)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (١٥٩)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية من الفتح الإسلامي حتى نهاية القرن الرابع، د. علي مفتاح (١٥٥)، القاهرة خططها وتطورها العمراني، أيمن فؤاد سيد (٢٨٦)، نشأة الكليات، جورج مقدسي (١٦).
(٤) انظر: الحياة العلمية في الحجاز خلال العصر المملوكي، خالد الجابري (٣٦٢).

<<  <   >  >>