للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وطول ملازمته، وأن يجتهد في النصيحة لنفسه في ذلك. قال عمرو بن الوليد الأغضف: (رحلت إلى أبي حنيفة فلم يكن لي من القوة على العلم ما أقدر على مجالسته، فكنت أختلف إلى أبي يوسف أتعلم منه) (١). وحكي أن بعض جلساء أبي عثمان بن الحداد (ت ٣٠٢ هـ) ويعرف بابن المكي قال له يومًا: يا أبا عثمان، ما أشِّبه نفسي إذا كنت بين يديك إلا مثل الحمار. فقال له: لا تفعل يا أبا محمد، فإنك تحس حسًّا لطيفًا، وأنت كما قال الشاعر: (وفوقك أقوام وأنت شريف) (٢).

ومن نصيحة الأستاذ أن يقصد بطلبته إلى أقصى ما في مكنته من التعليم والتزكية، وأن يجتهد في ذلك دون غشِّ لهم وتضييع لأوقاتهم فيما لا فائدة منه ولا طائل من ورائه مما قد يستملحه الطلبة لكنه بمعزل عن النصيحة وحسن الاختيار لهم (٣).

قال السرخسي (ت ٤٩٠ هـ): (رأيت في زماني بعض الإعراض عن الفقه من الطالبين لأسباب، فمنها قصور الهمم لبعضهم حتى اكتفوا بالخلافيات من المسائل الطوال، ومنها ترك النصيحة من بعض المدرسين بالتطويل عليهم بالنكات الطردية التي لا فقه تحتها، ومنها تطويل بعض المتكلمين بذكر ألفاظ الفلاسفة في شرح معاني الفقه وخلط حدود كلامهم بها) (٤).

وقال ابن حجر الهيتمي (ت ٩٧٤ هـ): (واعلم أنه ما تخلَّف بقوم عن الاستفادة إلا غش مشايخهم لهم عند الإفادة، وقد أطبقوا على أن من سعادة


(١) فضائل أبي حنيفة وأخباره، ابن أبي العوام (٩٣). وفي الأصل: (عمر بن الوليد) وهو تصحيف، انظر: التاريخ الكبير، البخاري (٦/ ٣٧٩).
(٢) رياض النفوس، المالكي (٢/ ٦٧).
(٣) انظر السببين الذين ذكر الطاهر ابن عاشور أنهما أصل تأخر العلوم، في: أليس الصبح بقريب (١٥٣).
(٤) المبسوط (١/ ٤). وهذا الذي ذكره السرخسي لاحظه أبو الحسن العامري الفيلسوف (ت ٣٨١ هـ) حين حضر مجلس أبي حامد المروروذي (ت ٣٦٢ هـ) وسمع كلامه في مسألة فقهية، قال: (فاستطرفت كلامه في الفقه بألفاظ الفلاسفة) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي (٣/ ٩٣). وراجع تنبيهًا مهمَّا ذكره أبو الحسن العامري حول مغالطة الضعفاء وتمويههم بألفاظ الفلاسفة في كلامهم على وجه الدعوى وافتعال البراعة، وذلك في رسالته: الأمد على الأبد، ضمن مجموع: أربع رسائل فلسفية (١٥٤ - ١٥٥).

<<  <   >  >>