للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومن أمثلة ذلك ما حكاه أبو بكر الدينوري (ت ٥٣٢ هـ) فقال: (كنا نتفقه على شيخنا أبي لخطاب (ت ٥١٠ هـ)، فكنت في بدايتي أجلس في آخر الحلقة والناس منها على مراتبهم، فجرى بيني وبين رجل كان يجلس قريبًا من الشيخ بيني وبينه رجلان أو ثلاثة كلام، فلما كان اليوم الثاني جلست في مجلسي كعادتي في آخر الحلقة، فجاء ذلك الرجل فجلس إلى جانبي، فقال له الشيخ: لم تركت مكانك؟ فقال: أنا مثل هذا فأجلس معه، يزري علي، فو الله ما مضى إلا قليل حتى تقدمت في الفقه وقويت معرفتي به، وصرت أجلس إلى جانب الشيخ وبيني وبين ذلك الرجل رجلان) (١).

كما جرت العادة أن يكون للمدرس معيد أو أكثر يجلسون بقربه، والمعيد طالب من طلبة الشيخ المتقدمين، يعيد دروس الشيخ على الطلبة بعد فراغه منها، ويُفهِّم من لم يفهم منهم، ولا يمنع مستفيدًا عما يطلبه من زيادة تكرار أو تفهُّم معنى (٢).

والفقهاء متفاوتون في استعدادهم وقرب المسائل من أذهانهم ونجابة طلابهم، فمن الفقهاء من كان يستعد للدرس قبل موعده فيقرأ ويراجع مسائل الدرس، ومنهم من لا يكون بحاجة إلى ذلك لسبب منه أو من طلبته (٣). ولما ليم ابن عرفة (ت ٨٠٣ هـ) على كثرة الاجتهاد وإتعابه نفسه في النظر، قال: (كيف أنام وأنا بين أسدين: الأبي (ت ٨٢٧ هـ) بفهمه وعقله، والبرزلي (ت ٨٤١ هـ) بحفظه ونقله؟) (٤).


(١) المنتظم، ابن الجوزي (١٧/ ٣٢٨)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (١/ ٤٢٩). وانظر أيضًا حكاية الإمام أحمد مع الضحاك بن مخلد في: تاريخ دمشق، ابن عساكر (٥/ ٢٩٧)، وحكاية أبي سعد المتولي مع أبي الحارث السرخسي في: وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ١٣٣).
(٢) انظر: نهاية الأرب، النويري (٣٢/ ٤٦)، معيد النعم، ابن السبكي (١٠٨)، صبح الأعشى، القلقشندي (٥/ ٤٦٤)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (٢٠٨). ويُرجع بعض الباحثين تاريخ ظهور هذه الوظيفة العلمية إلى نشأة المدارس وانتشارها في القرن الخامس، انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي (٢١٤)، المدارس الإسلامية في العصر العباسي وأثرها في تطوير التعليم، د. حسين أمين، مجلة المؤرخ العربي، العدد السادس (١١).
(٣) انظر على سبيل المثال: الضوء اللامع، السخاوي (٩/ ١٨٣) وفي (٩/ ١٨٦).
(٤) نيل الابتهاج، أحمد بابا التنبكتي (٤٨٨).

<<  <   >  >>