للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قويها وتضعيف ضعيفها، لتعطلت الدروس وغُلِّقت المدارس، أفللمدرِّس فائدة غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطلبة وتفهيمه؟ ولو لم يكن له وظيف إلا سرد الأحكام ونقل الأقوال لما افتقر إلى المدرس مفتقر) (١). وقال ابن مرزوق الحفيد (ت ٨٤٢ هـ) في أبي الفضل المشدالي (ت ٨٦٤ هـ): ما عرفت العلم حتى قدم عليَّ هذا الشاب! فقيل: كيف؟ قال: لأني كنت أقول فيسلَّم كلامي، فلما جاء هذا شَرَع ينازعني، فشرعت أتحرز وانفتحت لي أبواب من المعارف (٢).

وكان طلبة أبي الفضل يقولون له: تنزَّلْ لنا في العبارة؛ فإنا لا نفهم جميع ما تقول. فيقول لهم: لا تنزلوني إليكم ودعوني أرقيكم إلي (٣). والواقعات الكثيرة في الماضي والحاضر تشهد بصدق هذه الكلمة الشريفة، وربما نزل الأساتذة بمستوى التعليم إلى أفهام الطلبة فلم ينهض بعدهم فيهم أبدًا (٤). وقد قال عبد الملك بن عمير (ت ١٣٦ هـ): (من إضاعة العلم أن تحدِّثه غير أهله) (٥).

فالمبالغة في تسهيل العلم ليكون في مستوى عامة الناس وضعاف الطلبة مضر بالحركة العلمية؛ لأن من العلم ما هو متين في نفسه ومفتقر بطبيعته إلى مقدِّمات لا يطيقها كلُّ أحد، وينبغي ألا يخلص إلى متين العلم إلا من هو متين الفهم، وربما اطلع الضعيف في فهمه وإرادته وديانته من مسائل الترخص والخلاف ونحوها، على ما يكون فتنة له في دينه وسبيلًا له إلى مماراة العلماء ومجادلة الجهلاء، فلم يكن فيه بالفقيه الراسخ العالم بحسن مواقع التنزيل، ولا بالعامي حسن القصد الساعي في براءة ذمته من عهدة التكليف، بل تحمل علمًا لم يبلغه عقله كان سببًا في سوء سعيه وضلال عمله. ومن أجل هذا المعنى وشبهه وصى العلماء بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، وألا يُحدِّث


(١) المعيار المعرب، الونشريسي (٩/ ٣٠٩).
(٢) الضوء اللامع، السخاوي (٩/ ١٨٢).
(٣) الضوء اللامع، السخاوي (٩/ ١٨٣).
(٤) انظر: الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية بتونس في القرن التاسع عشر، د. لطفي الجراي (١٦٣).
(٥) المدخ إلى السنن الكبرى، البيهقي (٢/ ١٤٤).

<<  <   >  >>