للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

العالم الناس بما لا يحتملونه من العلم، وقد مضت الإشارة إلى بعض هذا المعنى. وفي مقدمة صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) (١)، وقال أبو الوفاء بن عقيل (ت ٥١٣ هـ): (حرامٌ على عالم قويِّ الجوهر أدرك بجوهريته وصفاء نحيزته علمًا أطاقه، فحمله أن يرشح به إلى ضعيف لا يحمله ولا يحتمله؛ فإنه يفسده) (٢). وإنما يقرَّب إلى العوام ما يحتملونه وتمس حاجتهم إليه من مسائل العلم والعمل، كالذي جرت به عادة الفقهاء، ومن ذلك أن بعض الفقهاء من أصحاب القاضي أبي يعلى (ت ٤٥٨ هـ) كان لهم حِلَق بجامع الرصافة ببغداد، فيقصون الفقه شرحًا للمذهب على وجه ينتفع به العوام (٣).

فالمراد أن مجالس التعليم مما ترتقي به أحوال المدن والقرى في العلم، وربما دخل العالم قرية خاملة فاشتعلت به حتى تصير عامرة بأهله، وآثار آحاد العلماء في نشر العلم كثير معلوم، وقد قيل في أبي القاسم الأنماطي (ت ٢٨٨ هـ) إنه كان سبب نشاط الناس ببغداد في حفظ كتب الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) (٤)، ولما دخل أبو الفضل بن النحوي (ت ٥١٣ هـ) سجلماسة أخذ يقرأ في أصول الفقه، فقال بعض شيوخ البلد: ما يُقرئ هذا الإنسان؟ فقالوا: الأصول، فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علومًا لا نعرفها. وأمر بإخراجه.

فقال له ابن النحوي: أمتَّ العلم أماتك الله (٥).

٤ - في مجالس التعليم يتمايز المنتسبون إلى العلم، ويُعرف منهم المحقق المتلقي للعلم من أهله والمنتظم في سلكهم، والمتابع الجامع للعلم من الكتب دون تحقيق ولا تدقيق، وقد كان طوائف من العلماء يتوقَّون أن يكتبوا العلم خشية أن يكون في الناس من يكتفي به عن ملاقاة الرجال


(١) صحيح مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(٢) الآداب الشرعية، ابن مفلح (٢/ ٢٦٠)، والنحيزة الطبيعة، انظر مادة (نحز) من القاموس وغيره.
(٣) الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (١/ ٥).
(٤) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٢٤١).
(٥) رسائل اليوسي (١/ ١٤٦)، وانظر تمام الحكاية فيه.

<<  <   >  >>