للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

القاضي ما صبرت) (١).

ولئن كان في القضاة من يصبر ويحلم عما يناله في نفسه من الأذى، فإن ذلك غير مستحب عند الغضِّ من هيبة الشريعة وجلالة مجلس الحكم، ولذا كان أمر القاضي من أمر السلطان، ولم يزل (بين القضاة والعلماء والملوك والأمراء وأهل الرئاسة وأرباب السياسة الارتباط الشرعي الذي هو في سياسة الملك مرعي) (٢)، فالقضاء بطبيعته مفتقر إلى القوة التي تأطر الناس على الأخذ بالحق وتحملهم على الانقياد له، ومع ذلك فالقاضي قبلة الناس لإقامة العدل ونصرة المظلوم وتأدية الحقوق إلى أهلها، فلم يجمل به أن يحتجب عنهم كفعل السلاطين، فكان في منزلة بين هيبة الاحتشام وبسطة المخالطة على هيئة لا يستقيم غرضها إلا بارتسام قانون الشريعة.

والقاضي ليس له بدٌّ من استعمال السياسة في مخالطة الناس والفصل في خصوماتهم؛ لأن (الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة) (٣). وذلك أن القاضي وجه الناس في خصوماتهم، فليس هو كالفقيه الذي يعلم الناس الخير. والناس يحتالون في انتزاع ما لَهُم وما ليس لهم ويتوسلون إلى كل ذلك بالحق وبالباطل، فإن لم يكن للقاضي بصرٌ بالناس وخبرة بهم وحسن سياسة لهم ضاع وأضاع، و (سياسة الناس أشد من سياسة الدواب) كما قال الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) (٤).

والمقصود أن مقام القاضي مقام هيبة وحشمة وانقباض عما يكون من شأنه اجتراء الخصوم على مكانته وحكمه، أو التصرف في حضرته بما لا يليق بمجلسه. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه لما أراد أن يعين قاضيًا في البصرة قال: (لأستعملن على القضاء رجلًا إذا رآه الفاجر فرقه) (٥). وكان على رأس شريح


(١) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (٤/ ٦٣٥). وانظر: أخبار القضاة، وكيع (٣/ ١٨٧)، قضاة قرطبة، الخشني (٩٢) وفي (٩٤).
(٢) شجرة النور الزكية، مخلوف (٢/ ٦).
(٣) الإمتاع والمؤانسة، التوحيدي (٢٥٢).
(٤) آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم (٢٧١).
(٥) أخبار القضاة، وكيع (١/ ٢٧٠)، السنن الكبرى، البيهقي (١٠/ ١٠٨).

<<  <   >  >>