للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ويقاسي في مقامه هذا ما يقاسيه من تصدى لشأن عامة الناس، ولكنه حاكم بالشرع فلا يحابي أحدًا من ذي سلطان أو قرابة، أو كبير في الناس أو صغير، ولكنه يداريهم ويتقي شرهم ويستنقذ نفسه وعرضه منهم، ويحتمل في ذات الله جل جلاله ما يناله من الأذى ابتغاء موعود الله وحسن جزائه، فالدنيا لم تقم على المصلحة المحضة، والصابرون يوفَّون أجرهم بغير حساب يوم القيامة.

كان سوار بن عبد الله العنبري (ت ١٥٦ هـ) قاضي البصرة للمنصور (ت ١٥٨ هـ)، فكان في مجلسه ذات يوم فعطس أبو جعفر فلم يحمد الله فلم يشمته سوار، ثم عطس فحمد الله فشمته، ثم نهض سوار فأتبعه أبو جعفر بصره فقال: أتزعمون أن هذا يحابي؟ والله ما حابى في عطسة! (١). وكان سوار يقول: ما تركت في نفسي شيئًا إلا قد كلمت به أبا جعفر (٢). وأمر عبد الرحمن الداخل (ت ١٧٢ هـ) قاضيه نصر بن ظريف اليحصبي أن يتأنى في قضية عرضت عليه، فخرج ابن ظريف من يومه وعمل بضد ما أراد الأمير وأنفذ الحكم، فغضب الأمير على القاضي واستحضره فقال له: من أمرك عل أن تنفذ حكمًا، وقد أمرتك بتأخيره والإناءة به؟ فقال له: قدَّمني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنما بعثه الله بالحق ليقضي به على القريب والبعيد والشريف والدنيء. وأنت أيها الأمير، ما الذي حملك على أن تتحامل لبعض رعيتك على بعض، وأنت تجد مندوحة بأن ترضي من مالك من تعني به، وتمد الحق لأجله؟ فقال له عبد الرحمن: جزاك الله يا ابن ظريف خيرًا (٣). وردَّ قاضي بغداد أبو بكر محمد بن المظفر الشامي (ت ٤٨٨ هـ) شهادة شاهد لأنه يلبس الحرير، فقال له الشاهد: السلطان ملكشاه (ت ٤٨٥ هـ) ووزيره نظام الملك (ت ٤٨٥ هـ) يلبسانه، فقال القاضي: ولو شهدا عندي ما قبلت شهادتهما أيضًا (٤). ولما قيل لقاضي دمشق أبي القاسم جمال الدين بن الحرستاني


(١) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٦١).
(٢) أخبار القضاة، وكيع (٢/ ٨٨).
(٣) المرقبة العليا، النباهي (٤٤).
(٤) طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (٤/ ٢٠٤).

<<  <   >  >>