للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الشجرة التي تشبه المؤمن]

قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان وهو ابن بلال - قال: حدثنا عبد الله بن دينار -يعني: سليمان هذا متابع لـ إسماعيل بن جعفر، ومالك، وابن عيينة، والثوري، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وعبد العزيز بن مسلم القسملي، وموسى بن عبيدة الربذي - قال القطواني: حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مِثلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة) .

ابن عمر نظر إلى أسنان القوم فوجد الكبار أمثال: أبي بكر، وعمر، فحمله هذا الحياء على أن لا يتكلم، يستفاد من هذا أن على الشيخ أن يطرح المسألة على الطلبة بقصد استخراج الكفاءات والمواهب، كما قال عبد الله بن المعتز: كما أن الشمس لا يخفى ضوءها وإن كان دونها سحاب، فكذلك لا تخفى غريزة عقل الغلام وإن غلفت بالحداثة.

حديث السن ممكن يكون ذكياً، ابن الأبار في معجم أصحاب أبي علي الصفدي يقول: ذات مرة كنا جالسين نستمع لمسند البزار، وكان هناك أب جاء بابنه، قال: لا أشك أنه دون خمس سنوات، فقرءوا حديثاً من مسند البزار، قال: (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر الطير بين يديه مشوياً) في الدنيا قد ترغب في أكل اللحم، ولكن لا تقدر عليه، أما في الآخرة فإذا رغبت في أكل شيءٍ معين، فإنك تجده أمامك مشوياً على طبق.

هذا الولد الصغير ابن أربع أو خمس سنوات، أول ما سمع الحديث: (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر بين يديه مشوياً) ، قال الطفل: على طبق؟! انظر إلى هذا الطفل الذكي يقول: هل الديك هذا سينزل هكذا على الأرض، أم سينزل على رغيف خبز أو شيء، الجالسون اندهشوا من ذكاء الولد، قالوا: كيف علم أن اللحم يحتاج إلى خبز وهو ابن ثلاث أو أربع سنوات؟! ممكن تظهر نباهة الولد، فالشيخ والأستاذ والمربون يستغلون الصغار وتربيتهم تربية حسنة، وينمون فيهم الذكاء والفطنة، وذلك بالاستفادة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وبسبب إهمال هذه المسألة ضاعت كثير من الكفاءات.

ولكن ليس معنى أن هذا الصبي حين استخرج فائدة أن أكبره قبل أوانه، يقول بعض السلف: إذا تكلم الغلام مع الشيوخ فاغسل يديك منه.

لقد كان سفيان بن عيينة الإمام الكبير قاعداً في الحلقة، فدخل شاب صغير لابساً عمامة ويحمل القرطاس، فمنظره لا بأس به، لكن العمامة كبيرة عليه قليلاً، نعم هو لابس عمامة، لكن نحن ما تعودنا أبداً نرى ولداً عمره خمس سنين لابساً عمامه، فمنظره كان ملفتاً، فالذين كانوا جالسين مع سفيان بن عيينة ضحكوا منه، فقرأ سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤] ، ثم التفت إلى أحمد بن النضر -وهو الذي يحكي الحكاية- ثم قال: (يا ابن النضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، أكمامي قصار، وثيابي صغار، ووجهي كالدينار، آتي علماء الأمصار، كـ الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كالموزة! فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير) ، ممكن يكون صغير السن، لكن لا يصح أن طوله خمسة أشبار وتجعله يصعد على المنبر، وتقول له: اخطب لنا الجمعة، لا ينفع هذا الكلام، أنت هكذا حرقته، ولأنه لم يتعلم أدب الطلب، لابد أولاً أن يتعلم أدب الطلب، وبعد ذلك تعلمه العلم.

المسألة ليست مسألة لسان منطلق، المسألة مسألة قدوة، أنت حين تأخذ العلم من الشيخ لا تأخذ كلاماً فقط، إنما تأخذ سمتاً، وعادة لا يكاد المرء يخضع لصغير السن، عبد الله بن المبارك كان يقول: عالِم الشباب محقور! يعني: لو أن الشيخ الألباني حفظه الله أتى وجلس مكاني هكذا، أنت ممكن ما تسمع ولا كلمة، وذلك بسبب كثرة كونك لأول مرة تنظر في وجهه وتتأمل فيه، وتلاحظ سمته وكلامه، وصدق لهجته وهو يتكلم، وبسبب المهابة التي عليه، فيشغلك مراقبة سمته عن متابعة لسانه، فإذاً العلم ليس مجرد لسان ينطلق، ولا شخص يتكلم، العلم سمت ولسان، فلا يرجى خير الصبي الصغير عندما يجلس في وسط الشيوخ ويتكلم، ولسانه طويل فهذا لا يصح.

فالرسول عليه الصلاة والسلام كما قلنا: سن للشيوخ الذين يمشون على دربه، والذين ينصرون سنته، أن يختبروا طلابهم، طلاب العلم ما بين الفينة والفينة، بأن يلقي مسألة ما.

<<  <  ج: ص:  >  >>