للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقوال العلماء في صيغ التحديث (حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، سمعت ... )

قال: وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) و (سمعت) كل هذه الصيغ لا فرق بينها وبين بعضها الإمام سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي -.

رحمه الله كما قال الشافعي: لولا سفيان ومالك لذهب علم أهل الحجاز.

فـ سفيان بن عيينة إمام ثقة ثبت، وهو الوحيد في الدنيا من بين المدلسين الذين تستوي عنعنته مع تصريحه بالسماع، وإلا فالمدلس لابد أن يقول: حدثني، أو أنبأني، أو سمعت التي تفيد أنه سمع ذلك من شيخه مباشرةً.

ولو عنعن المدلس الإسناد ردوا عليه حديثه، ولم يقبلوه إلا أن يصرح بالتحديث، إلا سفيان بن عيينة، فهذا هو الوحيد الذي تستوي عنعنته مع تصريحه بالسماع، كما صرح بذلك ابن حبان في مقدمة صحيحه عند كلامه عن المدلسين.

وكتب ابن حبان: أن ليس في الدنيا من له هذه الخصيصة إلا سفيان بن عيينة،وقال: إنه كان لا يحدث إلا عن ثقة مثل نفسه، ولا نعلم هذا لأحدٍ إلا لـ سفيان بن عيينة رحمه الله.

فلما نقل الإمام البخاري هذا الكلام عن سفيان بن عيينة، علمنا أنه مراد البخاري من الصياغة، إذاً كأن البخاري يذهب إلى رأي سفيان بن عيينة أنه لا فرق بين هذه الصيغ جميعاً.

وهذا هو أصل الوضع اللغوي في الكلمة، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:٤] ، فذكر التحديث وذكر الإخبار بمعنى واحد، وقال تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٤] وهذا في الإنباء والإخبار، فالتحديث والإنباء والإخبار وإثبات السماع كله بمعنى واحد، وهذا على أصل الوضع اللغوي.

وإلى هذا القول ذهب إمام أهل المدينة في زمانه، وهو محمد بن شهاب الزهري رحمه الله، وذهب إليه مالك وابن عيينة كما سمعتم الآن، ويحيى بن سعيد القطان، وذهب إليه أكثر أهل الحجاز وأكثر أهل الكوفة، وهو الذي اختاره ابن الحاجب في مختصره، في كل هذه الصيغ، ونقل الحاكم أبو عبد الله صاحب: المستدرك عن الأئمة الأربعة: أنهم يقولون بذلك.

وذهب آخرون إلى التفصيل ما بين أن يأخذ التلميذ من الشيخ مشافهة، أو أن يقرأ التلميذ على الشيخ، فقالوا: إذا جاءت اللفظة مطلقةً فهذا يدل على أن الشيخ هو الذي قرأ، مثل لو قال التلميذ: حدثنا فلان، أو أخبرنا، أو أنبأنا هكذا بإطلاق؛ فهذا يدل على أن الشيخ هو الذي قرأ.

فإذا قُرئ على الشيخ فينبغي أن يغير اللفظة، فيقول: حدثنا فلان بقراءة فلان عليه، أو أنبأنا أو أخبرنا بقراءة فلان عليه، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام إسحاق بن راهويه، والإمام النسائي، وابن حبان.

ابن حبان لا يقول: حدثنا، إنما يقول: أخبرنا، والنسائي أيضاً، إنما يستخدم لفظة الإخبار، وقلما يستخدم لفظة التحديث كأن يقول: حدثنا أو حدثني، وقلما يستخدم لفظة الإنباء، كأن يقول: أنبأنا أو أنبأني، إنما المشهور عند النسائي أنه كان يختار لفظة الإخبار.

ومنهم من قال: إذا قال: حدثنا، يكون هذا من لفظ الشيخ، وإذا قال: أخبرنا، فتكون قراءة على الشيخ، وهذا مذهب ابن جريج، والأوزاعي، واختاره الشافعي، وابن وهب، رحمهم الله، وعليه أكثر أهل المشرق.

والذين جاءوا بعدهم كان لهم تفصيل أكثر، قالوا: إذا قال: حدثنا فيكون سمعه التلميذ مع جماعة، وإذا قال: حدثني، يكون سمعه التلميذ وحده من الشيخ، وهكذا في أخبرنا وأخبرني، وأنبأنا وأنبأني، وسمعنا وسمعت.

إلخ.

وهذه كلها مسائل اصطلاحية ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكن ينبغي بعدما استقر عمل العلماء على هذا أن يراعي المتأخرون اصطلاح المتقدمين فيها، لماذا؟ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فينبغي عليهم أن لا يتجاوزوها، فالذي على المتأخرين أن يراعوا هذا، وليس على سبيل الوجوب.

وللطحاوي - أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، وهو من تلاميذ الإمام النسائي - جزء اسمه: (جزء التسوية بين حدثنا وأخبرنا) أي أن الطحاوي يذهب إلى هذا المذهب الذي ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله، وسبقه إلى ذلك الزهري، ومالك، وابن عيينة، كما بينا ذلك.

قلنا: الإمام البخاري رحمه الله له معلقات في صحيحه، وكما قلنا: ليس كل معلقات البخاري على شرطه، بل بعضها على شرطه، وبعضها ليس على شرطه، فعلق البخاري جملةً من الأحاديث التي وصلها في صحيحه كما يأتي ذكره الآن.

<<  <  ج: ص:  >  >>