للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحياء من الإيمان]

في الحديث السابق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما برغم صغر سنة، يقول: كنت عاشر عشرة فيهم أبو بكر وعمر.

فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم السؤال؛ قال: فنظرت فإذا أنا أصغر القوم.

أي: هاب أن يتكلم وفي القوم أبو بكر وعمر، وهذا الحياء أصله محمود، وأصل الحياء محمود: لأن الحياء غريزة تمنع صاحبها من مقارفة القبائح، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعاتب أخاه في الحياء حتى كأنه قال له: إنه أضر بك.

لماذا؟ من شدة حيائه.

يمنعه ذلك أن يستوفي حقه من الناس، وبعض الناس عنده جرأة، يقول: يا أخي! المبلغ الذي علي لك دعه لي، أنت تملك مالاً كثيراً فدع لي المبلغ هذا، اعتبره هدية، فيُحرِجه، فيسكت ولا يستطيع أن يتكلم، فمن كثرة الناس الذين يتعاملون بهذه الطريقة ضاعت الحقوق، وبعض الناس يقول لك: قال صلى الله عليه وسلم: (ما أخذ بوجه الحياء فهو حرام) ، والحرام أن يروي هذا الحديث؛ لأنه كذب ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الرجل من كثرة حيائه ضاعت حقوقه، فصاحبه يعاتبه، يقول له: لا تستحي؛ لأنه أضر بك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان) ، أي: دعه على هذا الخلق الحسن المحمود؛ فإن الحياء من الإيمان، لماذا من الإيمان؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ، -وفي رواية البخاري -: (بضع وستون) ، وبضعٌ وسبعون أقوى وأصح، بضع وسبعون شبعة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، أي ما بين أعلى وأدنى، فنص على الحياء للدلالة على أهميته وخطورته، وإنما اختصّه بالذكر دون سائر الشعب لأهميته البالغة.

والإنسان إذا استحيا حتى ضاع حقه من كثرة الحياء؛ لا يمكن أن يقارف حدود الله أبداً، إذا وصل حياءه إلى هذا الحد، الذي يضر به، ويمنعه من استيفاء حقوقه، فهذا لا يجرؤ على مقارفة ما حرم الله سبحانه وتعالى فاتركه.

وأنا أعرف شخصاً كان شديد الحياء، وكان رجلاً عنده أرض كثيرة، وكان يزرع قطناً، فوجد شخصاً يسرق القطن، ويجمعه في كيس، وصاحب القطن هذا كان يمشي في مصرف في الأرض، والآخر ما زال يسرق من أرضه، فلما رآه، جلس في المصرف حتى ينتهي السارق من تعبئة الكيس ويذهب، يعني: أنه استحيا منه بالرغم أنه سارق، لماذا؟ لا يريد أن يوقعه في الحرج.

هذه فضيلة، الرجل سُرِق القطن من أرضه ومع ذلك استحيا، لكن هذه فضيلة برغم ضياع هذا القطن.

كلما تدرب شخصاً على أنه يكون قليل الحياء، شيئاً فشيئاً فشيئاً يعتدى على حقوق الناس، ويكون بلا حياء مثل الذي يقول: المال الذي عندي لك اجعله لي هدية.

فلا يزال يقل حياؤه حتى يتجرأ على حدود الله.

أما صاحب الحياء فاتركه؛ لأنه في هذه الحالة سيكون بينه وبين حدود الله عز وجل مسافةٌ طويلة، فأصل الحياء محمود.

وجاء في حديث أبي سعيد في الصحيحين: (كان النبي أشد حياءً من العذراء في خدرها) ، وما قال قط: لا.

أبداً، يعني في حياته المباركة هذه ما قال: لا.

أبداً، لأي واحد يطلب منه أي طلب، حتى إنه ذات مرة أعطى رجل النبي صلى الله عليه وسلم بُردة، فآخر أول ما رأى البردة قال: أعطنيها يا رسول الله؟! فأعطاها إياه فلاموه، قالوا: أنت تعلم أنه لا يقول: لا، أبداً، وأنت تعلم حاجته إليها، فكيف طابت نفسك أن تأخذ منه ما هو محتاج إليه، وأنت تعلم أنه لا يقول: لا؟ فقال: والله ما رغبت فيها لألبسها، ولكن أردت أن أُكفَّن فيها.

فهذا أيضاً يلتقي مع حديث ابن عمر الذي يُعَاتب فيه صاحبه فيقول له: إنه أضر بك الحياء.

كذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً إلى البردة، ومع ذلك لما قال: أعطنيها يا رسول الله: فأعطاها إياه.

إذاً: الحياء أصله محمود؛ لكن هناك نوعٌ من الحياء لا يُحمد، وهو: الحياء في العلم وفي الفقه؛ بحيث يفوت عليك الحكم الشرعي، فأنت عندما تسأل إنما تسأل عن مراد الله تعالى، وكلما فعلت مراد الله فعلت محبوباً إلى الله سبحانه وتعالى، وكلما استحييت ضيعت على نفسك أن تتقرب إلى ربك، فالذنب إنما هو بسبب تفويت محبوب الله تبارك وتعالى؛ فهذا النوع من الحياء لا يُحمد، ولذلك صح عن مجاهد بن جبر رحمه الله، أنه قال: لا يتعلم اثنان، مستحيٍ ومتكبر.

فالمستحيي لا يريد أن يظهر بين إخوانه أنه قليل الفهم، يقال لهم وهو معهم هل أنتم فاهمين؟ فيقولون: فاهمون جداً، وتراه يهز رأسه للدلالة على أنه فاهم ومنشرح مع أنه قد يكون غير فاهم، فهذا ضيع على نفسه فرصة الفهم، لماذا؟ بسبب الحياء، والمستكبر أيضاً لا يتعلم، يقول لك: ابن من هذا الذي يريد أن آتي إليه؟ أنا ابن فلان، وأبي فلان، وعندي المال الفلاني، وعندي العمارة الفلانية، وجد جدي كان المفتي، فيزدري أهل العلم.

وكم في الزوايا خبايا! وكم في الناس بقايا! كم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم! فأنت لا تعرف أقدار الناس، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو!!

<<  <  ج: ص:  >  >>