أن يتقبل هذا الشعر الجديد، ولا أن يحاول فهمه، وما زالت أغلب الأوساط الأدبية والفكرية تتحدث عنه بازدراء وسخرية. ولقد ألفنا في السنين الماضية أن نرى أنصار الشعر الحر يقابلون تحفظ الجمهور بالثورة وبحملات السباب والتجريح بشكل يوجع ضمير أي مراقب رصين للموقف. ذلك أن الجمهور العربي الذي يرفض هذا الشعر الحر لا يعدو أن يكون أحد اثنين، إما أنه متأخر في ثقافته ووعيه الشعري والأدبي وذوقه عن شعرائه الشباب بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم حركة جديدة ما زالت تبدو له غامضة، وإما أنه محق في رفضه لهذا الشعر لسبب وجيه ما. وفي الحالتين لا ينبغي لنا أن نتهجم على الجمهور. فإن كان الحق معنا، وكان جمهورنا الذي نكتب له متأخرًا عنا، فإن واجبنا أن نعلمه لا أن نسبه ونهينه ونهاجم مقدساته، وأما إذا كان الجمهور على حق، فماذا علينا أكثر من أن نرى الحق ونقره، ولو كان ضدنا؟ إن الشعر العربي ينبغي أن يكون أعز علينا من أي تجديد غالط وقعنا فيه.
على أن من حسن الحظ أن الظروف أقل قسوة من هذين الطرفين اللذين ذكرناهما، فلا الجمهور العربي متأخر إلى هذا الحد المؤس، ولا الشعر الحر صادم للروح العربية والأذن العربية، وإنما يقوم موقف الجمهور منه على تداخل عوامل عديدة بعضها خارجي وبعضها يتصل بكل حركة مجددة تقابل جمهورًا ذا تراث قديم أصيل، وبعضها يرجع إلى أغلاط يقع فيها الشعراء أنفسهم.
ومهما يكن من أمر فقد حاولت في هذا البحث أن أدرس الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف من الشعر الحر موقف المقاوم، وقد صح لديَّ، بعد طول التأمل، أن السبب في ذلك يرجع إلى ثلاثة أصناف من العوامل: