"قف بنا يا قطار". وبالتلوين اللفظي الذي أدخله الشاعر في المقطع المكرر تغير اتجاه المعنى في القصيدة كليًّا، فاستحالت "لا تحترق" التي جاءت في أول القصيدة إلى "احترق، احترق" التي ختمتها. وكانت هذه مقارنة صامتة بين حس الأمل في المقطع الأصلي، وحس اليأس في المقطع المكرر. وقد كان الشاعر فنانًا وهو يختار "احترق، احترق" عنوانًا؛ لأنها، كما رأينا، ملخص الصراع كله، وإليه ترتكز القصيدة.
وتجرني هذه القصيدة التي اختتمها الشاعر بالتكرار إلى الوقوف لحظة عند قضية اختتام القصائد بتكرار مقاطع سابقة منها، وهو أسلوب غير نادر في شعرنا اليوم. في الواقع أن كثيرًا من هذه الخواتيم تجيء غاية في الرداءة، والسبب أن بعض الشعراء الضعفاء يلجئون إلى التكرار تهربًا من اختتام القصيدة اختتامًا طبيعيًّا، ومن طبيعة التكرار أنه يوحي بانتهاء القصيدة وبذلك يستطيع أن يخدع القارئ العادي. على أن العيب الفني لا يفوت على قارئ متذوق يتحسس جمال التكرار ويدرك سر البلاغة فيه. وسأختار لهذا التكرار المضلل نموذجًا لشاعر نؤمن بشاعريته -فلا خير في أمثلة نقتطفها من شعراء لا قيمة لهم- قصيدة "الكوخ" من ديواني "أغاني الكوخ" الصادر سنة ١٩٣٤ لمحمود حسن إسماعيل، وهي قصيدة طويلة ضغطت فيها القافية الموحدة على الشاعر حتى أبرمته، وجعلته يتهرب من الخاتمة فأجهز على القصيدة بتكرار المطلع الذي كان، لسوء الحظ، مطلعًا رديئًا١:
١ ديوان أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل، القاهرة ١٩٣٥.