ولا يمكن الحديث، على كل حال، عن نحو أندلسي بسمات خاصة ورواسم فريدة، على إحاطة النحاة الأندلسيين وجدوى ما رفدوا به النحو من جدة في البحث والاجتهاد فإنهم لم يتفردوا فيه بخط عام يميزه من نحو المشرق عامة بعد ابن مضاء.
***
يتبين بهذا كله أنه لا بد من التعويل على القياس، والأخذ بالعلة والاقتصار منها على ما دعوه بالعلة التعليمية والعلة القياسية، فلا نغلو في التعليل ونمضي فيه حتى نخضع اللغة لأصول المنطق والفلسفة ونهج الجدل والحجاج، فننأى بها عن خصوصها وطبيعتها. قال الزجاجي في (إيضاح علل النحو) : "قد عرّفناك أن الأشياء تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. فنقول ان الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا ندرك الألوان خالية من الأجسام..". فما حاجة النحو إلى جدل لفظي لا درك فيه، وبحث فلسفي لا غناء له في صنعة نحو أو بيان. وقال نحوي في تعليل أن (هل) إما أن تباشر الفعل كقولك: (هل قدم زيد) أو تباشر اسماً لا يقع في تعليل حيِّزه فعل. تقول:(هل زيد قادم) ولا تقول: (هل زيد قدم) ، قال:(إن هل إذا لم تر الفعل في حيِّزها حنت إليه لسابق الألفة فلم ترض حينئذ إلا بمعانقته) فما حاجة النحو إلى مثل هذا العبث والتخييل وهل يجديه ذلك نفعاً أو يسوق إليه بياناً أو يوجب له حسناً؟
ولا مناص من أن يفسح للسماع ويوسع له، ولو خالف القياس، فقد يستدعيه الاستعمال وتقتضيه حاجة التعبير. ذلك أن كثيراً من الشاذ المتأول إنما يثبت الأصل الذي انزوى عنه وينبه على أن مجانبته لهذا الأصل وانفراده عنه بالحكم، إنما كان لداع في التعبير أوجبه الاستعمال، على ألا يعتمد هذا الشاذ لترسى فيه قدم قياس يبطل الأصل الثابت.