ولابد في بلوغ الغاية في هذا المطلب من أعمال الفكر وتدقيق النظر، وبذل الطوق في تحصيل ما يتصل بجوانب البحث، إذ لا مجال لتحقيق المراد منه بأهون سعي وأقرب طلب. وليس القائل في هذا بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده.
وقد عقدت في كتابي (مسالك القول في النقد اللغوي) فصلاً سابغاً أفضت فيه بعض الإفاضة في استيفاء طرف من الأصول في هذا الباب، ورأيت أن أتدارك هنا ما جمعت يدي عليه من دقائق، فيما اتفق لي بعد ذلك من تحقيق، واعترض من تمحيص واستقراء. ولو شئت لأوردت منه شيئاً كثيراً تضيق عنه هذه الأوراق.
ضوابط في استعمال الحروف:
قال أبو نزار المعروف بملك النحاة، على ما حكاه الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (٣ / ١٧٦) ، وأبو نزار هذا الإمام بارع من فقهاء الشافعية، ذو نظم ونثر، له مصنفات في النحو والصرف والقراءات والفقه والأصول وديوان شعر (مولده ببغداد ووفاته في دمشق ٥٦٨ هـ) قال: (إن الفعل قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك أنك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار، وإن أردت الصحبة قلت خرجت بسلاحي فقد وضح بهذا أنه ليس يلزم في كل ألا يتعدى إلا بحرف واحد) .