للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومعلوم أن شكوى أنس للحجاج لاتنافي الصبر، ولا تقدح في أنس فإن الحجاج كان ظالماً مستبداً مؤذياً للأخيار ومنهم أنس، فرفع أمره للخليفة دفع لظلمه، وانتصار بالحق، وهذا جائز في الشرع، بل محمود قال تعالى: ﴿ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل﴾ (١)، وقال ﷿: ﴿إلا الذين آمنوا وعموا

الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا﴾ (٢)، وقال تعالى في وصف المؤمنين في معرض الثناء عليهم: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾. (٣)

فأنس انتصر لنفسه بحق ثم إنه رأى بعد هذا أن الأولى هو عدم ذلك، وأن الأليق بمقامه هو العفو والصفح، وعليه يتنزل قوله: (لم نصبر) والله تعالى أعلم.

وأما قول البراء بن عازب : (إنك لا تدري ما أحدثنا بعده) (٤) فمحول على ماتقدم من مقت الصحابة رضوان الله عليهم لأنفسهم، لكمال إيمانهم، وتعظيمهم لربهم.

قال ابن حجر في شرحه: «يشير إلى ما وقع لهم من الحروب وغيرها، فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله». (٥)

قلت: وهذا حال كل مؤمن كامل الإيمان، فهو دائماً يستصغر عمله ويستقله، ويستعظم ذنبه ويستكثره، وذلك لكمال علمه بالله

وقوة تعظيمه له، بخلاف الفاسق، فإنه يستعظم عمله، ويستقل ذنبه، لضعف الإيمان في نفسه وجرأته على ربه.

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (إن المؤمن يرى


(١) سورة الشوري آية ٤١.
(٢) سورة الشعراء آية ٢٢٧.
(٣) سورة الشورى آية ٣٩.
(٤) أخرجه البخاري في: (كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية) فتح الباري ٧/ ٤٤٩، ح ٤١٧٥.
(٥) فتح الباري ٧/ ٤٥٠.

<<  <   >  >>