للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحاصل أن "مقصود الحياة (عند الحيوان عامة) هو حصول ما ينفع به الحي ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة" (١) .

فالسعي لتحقيق اللذة والمنفعة هو وقود الكدح الإنساني على الأرض، ولما كان ذلك فطريا في كل نفس، لم يكن من شأن المنهج الرباني الذي نزل متسقاً مع الفطرة أن يقتلعه ويخمده، وإنما شأنه أن يوجهه ويقومه. فالطاقة المحركة لا يعيبها أنها طاقة وإنما العيب أن يساء استعمالها فتتخذ طاقة للشر والخسران.

إذا تقرر هذا أمكن الوصول إلى النتيجة من خلال الإجابة عن سؤال لابد منه وهو: هل يستطيع الإنسان - مستقلا منفرداً - معرفة النافع المستلذ وتمييزه عن الضار المكروه في الحال والعاقبة؟

وإذا عرف شيئا من ذلك، فهل يستطيع الحصول عليه ودفع العوارض الحائلة دونه بمجرد تشوفه إليه وإرادته الحصول عليه؟

إن تركيب الإنسان النفسي والعضوي، وواقعه المشهود على مدار التاريخ، وطبيعة الحياة كما خلقها الله تعالى، و "الكبد" الذي خلق الإنسان فيه. و "الكدح" الذي لا ينفك عن بشر لتجيب جميعها بلا.

فالإنسان مع حرصه الفطري العنيد ومع السعي الدائم والحركة اللاهثة المستمرة يشتمل في تركيبه الذاتي على موانع كثيرة تحول بينه وبين استقلاله بذلك، ومنها على سبيل التمثيل "الضعف، الجهل، الظلم، العجلة، النسيان"


(١) مجموع الفتاوى (١٤/٢٩٨) . ولما كان هذا مما فطر الله عليه الإنسان - لحكم عظيمة لا يبلغها الوصف - وجعله وراء كل عمل وإرادة له، فإن التصور السلفي ينظر إلى "اللذة" نظرة خاصة تختلف عن النظرات المنحرفة -قديما وحديثا - تلك النظرات الدائرة بين طرفي"الأبيقورية" المقدسة للذة و "الصوفية" المندسة لها. والتصور السلفي بفطريته ووضوحه يعتبر "اللذة" - من حيث هي - مطلوبة للإنسان بل ولكل حي، فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم، ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل، أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها. فها هنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل، فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر، هان عليه ترك أدنى اللذتينلتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما". الفوائد ١٩٣.
وإن شئت التوسع أكثر فانظر الاستقامة لشيخ الإسلام (٢/١٤٨- ١٥٤) . ولهذا كان الإنسان - بما كرمه الله به - هو الوحيد المختص بتقديم الآجل على العاجل والنظر في عاقبة اللذة قبل اقتناصها أخذا من الدرس القاسي الذي تلقاه أبواه في الجنة عندما قادهما الشيطان بدافع تحصيل لذة أعلى وهمية «أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ» [الأعراف:٢٠] إلى المعصية فالمصيبة حيث فقدا اللذة الحاصلة والمتوهمة معا.

<<  <   >  >>