من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف:"الإيمان قول وعمل" هو أنه التزام وتنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة - بالقلب واللسان والجوارح - ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء - فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف - من هذا الوجه - بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير.
وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله - فقد عمل (١) ، أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط.
ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:
إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة "الدين" حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: "الدين قول وعمل"، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرؤون حقائقه كل حين.
فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان "قول" فقط - متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة - أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك - أول مرة - أرادوا
(١) انظر الخلال لوحة ١٠٦، ذكره الإمام أحمد عن شبابة بن سوار، وقال: إنه قول خبيث ما بلغه عن غيره، وانظر ترجمة شبابة في تهذيب الكمال.