ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة.
ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها.
لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت - وما تزال - لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.
هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو"، ولكنه غلو متضاد.
ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.
وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم - في كثير من الأحيان - من التفاعل المادي.
وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى، ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة.
وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.